مقال يهمك

2011/07/04

اغتيـال بحيرة و دماء علـى ميـاه «المـنزلة»!

لو لم تحدث ثورة فى مصر لكانت الجريمة التى تعرضت لها بحيرة «المنزلة» كفيلة بإشعال تلك الثورة، فالنظام السابق لم يكتف بإفساد البر، ولكنه أفسد البحيرة أيضا، بسياساته الفاشلة المتمثلة فى تجفيفها لحساب استصلاح زراعى وعد به الجماهير، دون قدرة على الوفاء بوعوده، مما تسبب فى خسارة مسطحها المائى أكثر من نصفه، إذ تناقص من 280 ألف فدان عام 1982 إلى مائة وستة عشر ألفا أوائل يونيو الماضى، بحسب التصوير الجوى لها بالاقمار الصناعية.

وبعد أن كانت البحيرة مصدرا لإعاشة أكثر من مليون صياد يتوزعون على خمس محافظات، أصبح هؤلاء فريسة للبطالة والامراض وانعدام الأمل، مما دفعهم للهجرة الداخلية للصيد فى محافظات مجاورة كالسويس والبحر الاحمر، أو الهجرة الخارجية للصيد فى ليبيا واليونان ودول الخليج، وغيرها بينما يواجه من تبقى من صياديها خطر الموت اليومى على يد أصحاب النفوذ المتحصنين بالمافيا والبلطجية لحماية تعدياتهم داخل البحيرة.
فى كل تظاهراتهم، وآخرها أمام مبنى الثروة السمكية بدمياط، يوم 26 يونيو الماضى، طالب الصيادون حكومة الدكتور عصام شرف بأن تطهر البحيرة من التعديات حتى لاتختفى من خريطة مصر، لانها توفر للبلاد مصدرا للأمن الغذائى يتمثل فى ثلث احتياجها السمكي، وفرص عمل تكفى أكثر من مليون صياد يضطرون إلى اللجوء للهجرة غير المشروعة، وأحدثها الاسبوع الماضي، عندما تم ضبط 45 شابا بعزبة البرج بدمياط وهم يحاولون الهجرة لايطاليا باستخدام مركب صيد.
هى بحيرة «الموت» إذن، كما يصفها الاهالى، بالنظر إلى خطايا النظام السابق، الذى سمح بالتعديات عليها، عندما لجأ إلى تجفيف مساحات كبيرة منها، وتحويلها إلى أراض زراعية، «بقرارات سيادية» وهو التعبير الذى صكته وثيقة صادرة من هيئة تنمية الثروة السمكية بتاريخ 22 نوفمبر 1999!
ومن هنا يوجه الاهالى والمسئولون المحليون فى ثلاث محافظات انتقلت إليها «تحقيقات الاهرام» الدعوة للمجلس الاعلى للقوات المسلحة، لاصدار قراره بأن تؤول الرقابة على البحيرة إلى حرس الحدود، باعتبار أنها مترامية الاطراف وتحتاج إلى اجراءات أمنية تفوق القدرات الراهنة لشرطة المسطحات المائية، خاصة أن البحيرة كانت تتبع حرس الحدود بالفعل، حتى سنة 1983عندما صدر القرار الجمهورى للرئيس المخلوع بأن تصبح هيئة تنمية الثروة السمكية هى «المختصة ولائيا بالاشراف على البحيرات»!
وللشكوى مما آلت إليه البحيرة من تعديات وخراب، منذ ذلك التاريخ، أرسل الأهالى طوال العقود الثلاثة الماضية عشرات الفاكسات إلى أركان النظام البائد، مقترحين الحلول اللازمة للأزمة، لكن الحكومة وقتذاك واجهتها باجراءات شكلية، إذ عقدت حكومة الدكتور عاطف عبيد رئيس مجلس الوزراء المؤتمر القومى لبيئة بحيرة المنزلة فى عام 1991، دون الوصول إلى حلول تذكر.
رئيس الوزراء التالي، وهو الدكتور أحمد نظيف آخر رئيس وزراء فى النظام السابق اكتفى بالوعود الشفوية، إذ واجهه شيخ الصيادين فى المطرية حسن إبراهيم الشوا خلال اجتماع الاتحاد النوعى للجمعيات الأهلية فى فبراير عام 2010 بالقول: «نحملك أمانة هى أن تهتم ببحيرة المنزلة، فالبحيرة ضاعت، والغلابة ماتوا» فرد عليه نظيف بتأثر: «أطمئنوا. من العين دى والعين دى» وبالطبع كان حديث العيون كاذبا كما يقول شيخ الصيادين.
- ما مشكلة البحيرة؟
- مشكلتها: التجفيف، والتعديات
الرد السابق للمنسق العام للجنة الشعبية للدفاع عن صيادى المطرية وبحيرة المنزلة المحامى حسن محمد الملهاط.
لكن الحق يقال، ذلك أن تناقص مساحة البحيرة من 750 ألف فدان إلى 116 ألفا لم يكن مسئولية النظام السابق فقط، بل مسئولية الحكام الذين توالوا على حكم مصر منذ عام 1911، لانه فى خلال القرن المنصرم، وكما يوضح مدير هيئة الثروة السمكية بالمطرية أكرم حاتم أبوحسين، تم شق قناة السويس التى استقطعت 350 ألف فدان من البحيرة، وبمقتضاها ظهرت محافظتا بورسعيد والاسماعيلية، ومدينة بور فؤاد علاوة على تجفيف نحو 220 ألف فدان لصالح شق ترعة السلام، وانشاء عدد من الطرق السريعة والدائرية والطريق الدولي، وتجفيف مساحات لتحويلها إلى أراض زراعية، وهكذا بقى من البحيرة 190 ألف فدان فقط بحلول عام 1987.
معاول الهدم
البحيرة كانت أشبه بمنتجع سياحى إذ كانت مسطحا أبيض تعيش فيه جميع أنواع الاسماك، حتى أوائل الثمانينيات تحت اشراف حرس الحدود، حتى بدأ خرابها بصدور القرار الجمهورى باسنادها لهيئة الثروة السمكية، إذ بدأت التعديات من أصحاب النفوذ الذين استندوا إلى قربهم من القيادة السياسية.
هكذا يقول محمد السيد عزام رئيس لجنة الثروة السمكية فى مجلس محلى محافظة الدقهلية، مؤكدا ان «معول الهدم الثانى للبحيرة جاء على يد وزير الزراعة الأسبق الدكتور يوسف والي، الذى أراد تدبير مائة ألف فـــدان تنص على استصلاحها الخطة الخمسية للحكومة من تجفيف بحيرة المنزلة، فكانت النتيجة صنع مافيا لبيع الاراضى المجففة».
وبالتزامن مع ذلك ـ يتابع ـ جاء الفساد الكبير من مسئولى هيئة الثروة السمكية، وكانت بوابتهم اليه نظام المؤاجرة إذ قاموا بتأجير شواطىء البحيرة لبعض المتنفذين فكانت تلك المؤجرات بداية ناقوس الخطر، لان الواحد من هؤلاء كان يقوم بتأجير خمسة أفدنة لكنه يتعدى بعدها على آلاف الافدنة بحجة أنه قام بتأجيرها.
ويتفق المهندس محمد فرج رئيس لجنة الثروة السمكية السابق بمجلس محلى محافظة الدقهلية مع الرؤية السابقة بالقول انه على مدى الأعوام الثلاثين الأخيرة تعرضت البحيرة لعملية تجفيف واسعة خاصة فى عهد يوسف والي.
وجاءت جميع الآليات لحل أزمة البحيرة فاسدة لأنه وقف وراءها شبكة عنكبوتية من المسئولين الفاسدين الموزعين على وزارات الزراعة والإسكان والداخلية الذين ارتبطوا بمصالح مع اصحاب التعديات، بالرغم من انه لايجوز قانونا تجفيف شبر من مسطحها.
الكلام هذه المرة لعبد الرحمن الريس ـ عضو مجلس الشعب السابق ـ الذى يتهم فيه يوسف والى أيضا بأنه استولى أيضا على منطقة الجحر، ومساحتها 30 ألف فدان، واصدر قراره بتجفيفها، مع تخصيص عشرة آلاف فدان منها لموظفى هيئة التعمير، وخمسة آلاف لهيئة الثروة السمكية، وهؤلاء اخذوا يبيعونها لحسابهم لتصبح مزارع سمكية خاصة. يتساءل الريس: من اعطاه الحق فى منحها، وطرد الصيادين من مصدر رزقهم؟
ويضيف: « العجيب ان هيئة التعمير اصرت على أخذ المساحة، وتحولت على يديها لمزارع سمكية، وليس لأرض زراعية، متابعا: ليس معقولا بعد الثورة ان يستمر هذا الفساد.
جولة وسط التعديات
فى جولة بين المحافظات الثلاث لاحظت «تحقيقات الأهرام» ان المساحة المتاحة امام الصيد الحر ضيئلة للغاية، بالمقارنة مع المساحات التى اغتصبها اصحاب التعديات لإقامة الحوش والسدود والمزارع المخالفة.
الجولة تكشف كيف تتم التعديات، ففى البداية تتم احاطة جزء من المسطح المائى بجدار من الطين، خاصة ان مياه البحيرة ضحلة، وعمقها يتراوح مابين 70 سنتيمترا ومتر ونصف المتر فقط، أو تتم الاستعانة بسرطان البحيرة "ورد النيل أو البشتيت كما يسميه الصيادون" لعمل حوش مائي، يمتد على مساحة شاسعة من الماء، ويلجأ السمك للعيش تحته، فيصبح ملكية لمحتكر الاقطاعية، ويربح صاحبها من ورائها ملايين الجنيهات فى مدة يسيره، فى حين يعانى الصيادون الغلابة الأمرين.
وبدأت «تحقيقات الأهرام» الرحلة داخل البحيرة من مدينة المطرية ـ دقهلية، وهى شبه جزيرة تقع فى منتصف جنوب البحيرة، ويقطنها نحو خمسمائة ألف نسمة، ويعمل مايزيد على 90% من اهلها فى الصيد، وبرغم احتوائها على مائتى مسجد، إلا أن اهلها يسمونها «مدينة المطاريد» من فرط إهمال الحكومة لها.
وحسب تصريحات شيخ الصيادين حسن الشوا كانت المطرية تنتج مائة ألف طن من الأسماك عام 1980 لكن إنتاجها حاليا لايتجاوز خمسة آلاف طن، معظمه يأتى من المزارع السمكية.
خلال الجولة تبين ان البحيرة تحولت إلى ازقة وممرات، واخذت التعديات احيانا شكل منشآت ومبان خرسانية واحواض وسدود. ولإضفاء شرعية عليها لجأ بعض اصحاب التعديات إلى اقامة مساجد وسطها. كما ان هناك بيوتا متداخلة مع ضفاف البحيرة، وبعضها تمت اقامته بعد الثورة.
فى بداية الجولة عند المرسي، قابلنا العربى فياض، وهو صياد منذ عام 1948، وكان يصلح من شباكه، أو غزله، كما يقول، مضيفا: « حرام والله مايحدث للبحيرة. شوية المياه دول حياتنا، وهذه البحيرة بألف مصنع، ومع ذلك مش عارفين نشتغل».
شهداء البحيرة
فى مسلسل مازال معروضا. لقى صيادون كثيرون حتفهم خلال السنوات الأخيرة على ايدى البلطجية داخل البحيرة. النظام البائد الذى تحصن بقانون الطوارئ، لم يستخدم هذا القانون ابدا لكبح جماح هؤلاء البلطجية.
أحمد رشاد فياض (40 سنة) لقى وجه ربه بعد أن ضربه أمين شرطة داخل البحيرة قبل عامين فحكمت المحكمة بسجنه ثلاث سنوات. كانت الشرطة فى العهد البائد تطارد الصيادين، وتترك حيتان التعديات. تقول زوجته. وتضيف: «لا يشفى غليلى هذا الحكم الهزيل، وأطالب بإعدام كل من يرتكب تعديات».
محمود فياض (صياد) شقيق المتوفى يقول: تعرضت أنا أيضا لإطلاق نار منذ عشرة أيام فى مكان دخلناه قبل ذلك، وتعرضت لشتائم صاحب التعديات، قبل أن يطلق رصاصه علي. أخذت غزلى (الشباك)، وانصرفت».
العربى فياض (ابن عم الفقيد) ترك الصيد بسبب الحادثة، ويقول: هل تصدق أن الناس تذهب لبائع السمك لتشترى «بجنيه سمك». لقد صار أصحاب المزارع والتعديات يتحكمون فى أسعاره».
حادث آخر دفع ثمنه صيادان شقيقان: محمد ومحمود حوالة. كلاهما توفى بالرصاص من جراء إطلاق النار عليهما داخل البحيرة، تم القبض على المتهمين، وصدر الحكم هذه المرة باعدامهما، لكن الأب (محمود) يشكو باكيا من تأخر تنفيذ الحكم برغم تصديق المفتى عليه منذ مايو الماضي. وبانفعال يقول عم القتيلين (أحمد): هل تنتظر الحكومة أن نرتكب مجزرة؟
البعض الآخر من الصيادين كان حظه أفضل إذ تعرض للإصابة فقط من البلطجية، ويكشف عوض محمود أمين (39 سنة) عن جسمه الممتلئ بالشظايا، على أثر اطلاق الخرطوش عليه من قبل البلطجية، يقول: «شوفوا لنا حلا. نحن نذهب للبحيرة، ولا نضمن العودة منها لأولادنا سالمين».
«لا يمر يوم إلا وتكون هناك حادثة لإطلاق النار على الصيادين» يقول أحمد محمد فايد مضيفا: «اليوم فقط تعرضت لإطلاق النار بعد الفجر عند حوشة العفايفة بالبحيرة».
«أعمل وشقيقى على فلوكة، والمشكلة أننا كصيادين نتزاحم فى منطقة ضيقة من البحيرة هى المسموح لنا فيها بالصيد»، هكذا يقول عوض ابراهيم مصطفى، بينما يقول أحمد حميد (حاصل على ليسانس آداب): «لو فضلت البحيرة بالشكل ده مش هنلاقى بحيرة. هل نشترى بنادق ونعمل بلطجية؟!
وبحسب تقديرات الصيادين لم يعد متاحا للصيد الحر سوى عشرة آلاف فدان فقط من البحيرة، لذا يحذر حسن محمد الملهاط المحامى من أن ارتفاع معدلات جرائم القتل والشروع فى القتل والسرقات بالإكراه داخل البحيرة ترتب عليها تشرد الصيادين داخل البلاد وخارجها، وتعرض الكثيرين منهم للقرصنة والغرق والقتل، مع ظهور طبقة جديدة من أصحاب الأملاك أو الاقطاعيين الجدد، وسندهم فى ذلك البلطجية.
صانعة البلطجية وقلعة الإخوان
فى كثير من حوادث البلطجة داخل البحيرة وجه الأهالى أصابع الاتهام الى قرية «الشبول»، باعتبار أنها المصدر الرئيسى لتصدير البلطجية للبحيرة. قامت «تحقيقات الأهرام» بزيارة القرية ليلا، أصابنا الرعب من الطريق الذى لم يكن أحد سوانا يسير فيه بسيارته. قيل لنا إن هناك عمليات سلب ونهب تعرض لها بعض المارة به فى الليل.
لكن «على على منصور» وكيل معهد أزهرى فتيات الشبول ـ التى يقطنها عشرون ألف نسمة ـ يؤكد أن النظام السابق، هو الذى أطلق هذه «الشائعة» على القرية، لانها كانت ضده دوما، ولم يكن يستطيع تزوير الانتخابات فيها بسبب قوة الإخوان فيها، كما يؤكد، مستدلا على ذلك بوجود 28 مسجدا فى القرية، وأن أهلها يميلون للتدين، وأنها خرجت علماء ودعاة كثيرين، منهم الدكتور أحمد النقيب الداعية المشهور، وعبدالستار الحلوجى الحائز جائزة الملك فيصل فى الآداب.
هذا الوضع أزعج السلطات ـ كما يقول ـ فاستقطبت البلطجية من أبناء القرية، وعددهم لايزيد على خمسين بحسب تقديره، لاستغلالهم فى الإساءة للقرية.
القيادى الإخوانى يشير أيضا الى تلفيق حوادث سرقة وقتل كثيرة الى أهالى الشبول، وهم منها براء، ونظرا لأن أهالى الشبول أنفسهم يعانون من تردى الوضع الأمنى فى قريتهم، فقد طالبوا أجهزة الأمن بالقبض على بلطجية القرية، وهم معروفون لديهم، لكنهم رفضوا، وقالوا: «عندنا تعليمات بعدم نزول الشبول».
والأمر هكذا، يطالب القيادى بالتركيز على التوعية والتعليم، لا سيما انه لا توجد فى القرية سوى مدرسة واحدة هى الابتدائية، بفترتين وكثافة فصل 80 تلميذا، مع أن هناك ثلاث قطع من الأراضى جاهزة لإنشاء مدارس، وقطعة أخرى لإنشاء قسم شرطة خاص للقرية.
عائدون من ليبيا
نتيجة التعديات التى تحاصر بحيرة المنزلة اضطر عدد كبير من صياديها الى الهجرة الى ليبيا من أجل العمل، لكن اندلاع الثورة الليبية يوم 17 فبراير الماضي، وما أسفرت عنه من مواجهات دامية بين الثوار وكتائب القذافي، اضطر هؤلاء الى العودة للمطرية، وتعدادهم نحو عشرين ألفا، إذ يعانون من البطالة حاليا، بعد أن أخفقوا فى الصيد بالبحيرة.
محمد صلاح السويركى (35سنة) متزوج ولديه 4 أبناء، اضطر لبيع أثاث منزله من أجل تدبير نفقات السفر الى ليبيا حيث عمل هناك منذ عام 2005 على فلوكة تتبع ليبيين، ومع اندلاع الثورة الليبية حوصر فى طرابلس أسبوعا، وضاع متاعه فى مطارها، ولم يحصل على مستحقاته، قبل أن يتمكن من العودة الى مصر أول مارس الماضي.
 المصدر:  الأهرام اليومى 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليقك يهمنا ويشرفنا

مدونتي صديقتي

أنا انثي لاأنحني كــي ألتقط ماسقط من عيني أبــــدا