مقال يهمك

2010/09/15

الأخطبوط المُـمَثِّل /محمد المخزنجي


ستذهلك اللقطات التى يمكنك العثور عليها على موقع «يو تيوب» لهذا المخلوق البحرى العجيب، وستستغرب لأوجه الشبه التى أراها بين هذا المخلوق البحرى، وذلك المخلوق البشرى، الذى بات صاحب نفوذ وفلوس، وقلب هجوم فى ساحة وطن يحسبه، وتحسبه شِلّته، ملعبا لعبث صغار يتقمصون أدوار الكبار. ثم ستدهشك الحقيقة المخفية والجامعة بين مسلكيهما، المتشابهين فى بؤس الدوافع، والمفترقين فى التعبير والغايات! أجلس كما جلست أمام الكمبيوتر وأدخل على الشبكة، وأطلب موقع يو تيوب وأكتب فى خانة البحث «mimic octopus» أى الأخطبوط المُقَلِّد. ستكون دهشتك بالفعل عظيمة كدهشتى لغرابة ما رأيته من هذا الاخطبوط، برغم معرفتى بكثير من غرائب وعجائب المخلوقات. فاللقطات المأخوذة تحت الماء تصور شُجيرة عشب بحرى تمر إلى جوارها سمكة صغيرة وديعة، وسرعان ما تتحول الشجيرة أمام العين وتصير أخطبوطا يمسك بالسمكة ويلتهمها. كما رأيت هذا الأخطبوط يتحول إلى هيئة ثعبان بحر مخطط بألوان فاتحة وأخرى غامقة. إنه يستطيع تغيير شكله ويستطيع تغيير لونه أيضا. واستولى علىّ الفضول لمعرفة المزيد من أسرار هذا الأخطبوط. لم أنم حتى طفت بكل المواقع العلمية الممكنة لأستزيد، وعدت إلى مكتبتى لأزيح السر عن جبروت هذا الأخطبوط.. إنه واحد من «الرخويات» التى تسكن أعماق البحار والمحيطات الدافئة. ويسمى «المُقلِّد» لأنه يمتلك براعة مذهلة فى تقليد ما يخدم أهدافه. يصير صخرة ليقتنص قريدس يلوذ بظلها. ويتحول إلى ثعبان بحر مخطط إذا واجه سمكة قرش لأن القرش يخشى ثعبان البحر السام. قدرة عجيبة على التحول والتلون وذكاء مخيف أثبت العلماء أنه يتضمن القدرة على التعلم من تجاربه كما الإنسان مما يؤكد امتلاكه لذاكرة قوية. وهو يفكر ويدبر حتى إنه يتسلق مراكب الصيادين ليسرق بعضا مما صادوه عندما يكون جائعا ولا يجد ما يأكله. كما أنه يجيد تقمص شخصيات عديدة لا يشبه أحدها الآخر.. نجم بحر أو سلطعون أو صخرة. مخلوق مرعب كدت أكرهه برغم تعاطفى مع هذه الكائنات التى تحركها الغريزة واحتياجات الحياة. لكننى تأثرت بشدة وأشفقت على هذا الأخطبوط وأنا أقرأ عن حياته بالغة القصر. فهو يموت فى أعقاب التناسل وخروج صغاره إلى قاع المحيط. ويموت بطريقة مؤلمة ومثيرة للأسى، لأنه بعد أن يودع صغاره يبكى بدموع سامة تفرزها غدد فى عينيه الكبيرتين المُعبِّرتين، فتقتله. أما حيَله ومراوغاته وتحولاته وتلوناته، فهى جميعا أساليب دفاعية عن كيانه بالغ الضعف والذى يتلخص فى أنه مجرد غلاف بلا عظام ولا غضاريف ولا أى شىء صلب، عدا منقاره الذى يقتات به فى محيطٍ عاتٍ.. غابة مائية متوحشة، وأحراش من الأعماق المعتمة والمشحونة بالمخاطر. هذا الأخطبوط المُقلِّد، أو الممثل، يفعل كل ما يفعله تعويضا فطريا عن هشاشته البالغة، فهو واقعيا لا يعدو كونه خرقة من الجلد مملوءة بالسوائل الحيوية وخيوط نحيلة من الأعصاب تتحكم فى تشكيل هذه الخرقة، والشىء الوحيد القوى فى هذا الكيان البائس هو عينان مكتملتان، ومخ شديد الذكاء يفوق معظم، إن لم يكن كل، مخلوقات البحار والمحيطات. تماما كصاحبنا صاحب الفلوس والنفوذ وقلب هجوم شلة الصغار الذين يتكتكون للاستيلاء على وطن كبير فيما يشبه المهزلة، فهو، أى صاحبنا البشرى، لا شك فى ذكائه النسبى، لكن الفارق بينه وبين الأخطبوط المُقلِّد، أن الحيوان يستخدم ذكاءه لمجرد حماية نفسه ومواصلة رحلته المقدورة له فى الحياة، أما هو، فيستخدم ذكاءه لإشباع جنوح نفسه، المحبة للسيطرة والعاشقة للنفوذ، والشرهة بلا حدود لجنى المليارات دون استحقاق، ودون شفافية. الأخطبوط تحركه غريزة الرغبة فى الحفاظ على الحياة وسط غابة البحر التى يحكم توازنها مقننات الآكل والمأكول، أما البشر الشبيه، فتحركه تشوهات النفس التى تعوض نقصها، ليس بالسعى نحو الإنماء السوى للذات، ولكن بالاندفاع فى تشويه وتخريب مجتمع بشرى عبر تسويغ الأكاذيب لتمرير التسلُّط، والانتفاع من مفرزات هذا التسلط، باقتناص ما لا يحق له وللشلة وللمنتفعين من حولهم أن يقتنصوه. هذا خرقة عضوية، وذاك خرقة نفسية، وما أبأس أن ترفرف الخرق فوق رءوس الأمم. إنه لا معقول، والله مسرح لا معقول.. مسرحية خرقاء، وممثلون يقنعون أنفسهم ويريدون إقناع الناس بأنهم لا يمثلون، ويصرون على اقتناص التصفيق من جمهور مصطنع، حشروه حشرا فى صالات تمثيلهم، ودربوه طويلا على وصلات التهليل والتصفيق، ويظنون ذلك يرفع أسهمهم عند الناس، وكأن الناس لا يفهمون ولا يُحِسُّون ! مهزلة فجة ومتبجحة، تثير غضب الحليم، والماشى فى ظل الحيطان، والساكت، والمتغاضى، والغلبان، فهل يعى الأخطبوط البشرى المُمثِّل المتهافت، وهؤلاء الصغار من فوقه، ومن تحته، أنهم يزرعون الهزل، ويحصدون الكراهية؟.. وإذا كانوا لا يعون، فلابد أن الكبار الذين أفرزوهم، والمتساهلين معهم، يدركون أنه عرض هزلى يسحب من رصيدهم ولا يضيف، أم أنهم ما عادوا يعبأون بتراكم النفور الشعبى من هكذا عروض، ولا يُقَدِّرون خطورة اشتعال كراهية الملايين؟ لا نريد نارا للكراهية تشتعل عمياء، فلا تُطهِّر وطنا نعيش فيه جميعا بل تحرقه. لهذا يتكرر النداء للكبار، أولياء أمور هؤلاء الصغار وأرباب نعمتهم.. أدركوا اللحظة قبل أن تضيع على وطن بحاله، لا ملاذ حقيقيا لنا ولكم غيره، وأعيدوا الإصغاء لاقتراح ذكى يبحث عن مخارج مطمئنة للجميع، للحكام كما المحكومين، مخارج سلمية وقانونية تحفظ للجميع كرامتهم الإنسانية، وتحافظ للوطن على ما تبقى من أمل خافت فى الحاضر، ورجاءٍ ضارعٍ فى المستقبل، فهموم هذا الوطن باتت أثقل من أن يدعى كفاءة حملها فريق واحد، مهما كانت فى قبضته مفاتيح القوة والسلطة، خاصة وقد تسلّلت وتخفَّت بين أفراد هذا الفريق أخطبوطات بشرية ممثلة، شابة وشائبة، رديئة التمثيل، مُستفِزَّة، وبالتالى مكروهة، ولا هم لديها إلا الدفاع عن مغانم بلا استحقاق ومواقع بلا صدق، ولا كفاءة. فهل من مجيب؟ أسأل، ولإيمانى المطلق بتحضُّر وصحة الحلول السلمية لمآزق الأمم، ونفورى المطلق من شرور العنف والفوضى: سيظل يحدونى الأمل.

مدونتي صديقتي

أنا انثي لاأنحني كــي ألتقط ماسقط من عيني أبــــدا