صورة للطيار ثابت بك لدى نزوله فى ميدان الطيران الايطالى عام 1934
وراء مصر للطيران ملحمة طويلة ومسيرة حافلة، تعددت بداياتها وفصولها، الأمر الذي يعني أن المصريين يلحون علي الفكرة أكثر من محاولة إلي أن يتحول الحلم إلي حقيقة، وقد استعرضنا خمس بدايات لبداية ملحمة الطيران المدني المصري وهنا نرصد بدايات أخري وصولاً لعام ١٩٥٥.
(٦)أما البداية السادسة فتمثلت فيما نشرته الأهرام يوم الاثنين ١٢ يناير عام ١٩٣١ في وزارة «إسماعيل صدقي» وجاء الخبر تحت عنوان «في مطار ألماظة ـ وزير المواصلات وطلعت حرب بك يطيران في طيارة صغيرة».
وقد تضمن الخبر إشارة إلي أنه جرت في اليوم السابق حفلة أقيمت للطيران تمهيداً لمشروع إنشاء شركة له في مصر تحت إشراف ذلك المعهد الوطني الكبير وهو بنك مصر، وبهمة الرجل الكفء القدير طلعت حرب بك. وقدمت الصحيفة وصفاً تفصيلياً للحفل الذي كان حاضراً فيه «وزير المواصلات» ووكيل وزارة الخارجية، ومدير المشروعات ببنك مصر، والملحق التجاري بدار المندوب السامي بالقاهرة، ومدير قسم الطيران بوزارة المواصلات، و«الأمين الأول للملك» و«طلعت حرب» كل هؤلاء جاءوا ليشاهدوا مدير مطار هيستون بإنجلترا وهو يحلق بطائرته التي كانت من طراز «بوس موث» ذات الثلاثة مقاعد التي وصفتها الصحيفة بقولها «أحدها للطيار ومقعدان لراكبين ومقفلة اتقاء للبرد والهواء»، وبعد أن عرض الرجل طائرته وقام بجولة وعدة حركات دلت علي مهارته ركب صاحب العزة طلعت حرب بك لأول مرة طيارة، وحلق فوق مدينة هليوبوليس نحو عشر دقائق ولما نزل كان معجباً بالتجربة وذكر أنه لم يشعر بأي تعب، بل كأنه راكب سيارة مع عدم التقيد بحركة المرور وما فيها من مضايقة.
ويبدأ طلعت حرب ورجاله في بنك مصر في دراسة مشروع إنشاء شركة للطيران التجاري، وتقدموا به إلي وزارة المواصلات التي نشرت تفصيلاته في تقريرها السنوي الصادر في منتصف مارس من ذات السنة، وكان التقرير قد تضمن إشارة أيضاً للجهود المبذولة خلال السنوات الأربع السابقة لتحويل الحلم إلي حقيقة إذ تم في أعوام ١٩٢٧ و١٩٢٨ و١٩٢٩، إرسال ثلاث بعثات إلي إنجلترا للتخصص في الطيران التجاري، وأنه ـ علي حد وصف الصحيفة ـ «قدأنشئ أول خط جوي لنقل البريد والبضائع بين القاهرة والبصرة في يناير ١٩٢٧م، تم مده إلي كراتشي في الهند و«باكستان» في أبريل سنة ١٩٢٩م، ومن المتوقع أن يمتد في المستقبل القريب إلي ما وراء الهند الهولندية، أي «إندونيسيا» ومنها إلي أستراليا». وكان العام ذاته قد شهد إنشاء خط جوي آخر بين الإسكندرية وأوروبا «بطائرات مائية فوق البحر المتوسط» وفي العام التالي رخصت وزارة المواصلات إنشاء خط جوي ثالث بين القطر المصري وجنوب أفريقيا، افتتح قسمه الشمالي بين القاهرة وموانزا، وبذلك أصبحت مصر حلقة اتصال جوي بين أوروبا والهند وأفريقية».
وكان تقرير وزارة المواصلات قد تناول البرنامج الذي أعدته الحكومة لترويج الطيران المدني في القطر المصري بإنشاء ميناءين جويين تجاريين في كل من القاهرة «ألماظة» والثاني في الإسكندرية، كما ذكر أن الحكومة أنشأت الطرق اللازمة للميناء وقامت بتمهيدها لنزول الطائرات علي وجه يبعث علي الطمأنينة وأدخلت النور والكهرباء وأقامت سوراً حديديا جديداً حول الميناء، وأنشأت حظيرة للطيارات الخفيفة مع ملحقاتها، وكان قسم الطيران بوزارة المواصلات قد وضع التصميمات اللازمة لجعل الميناء صالحاً للطيران التجاري وقد افتتح فعلاً أول فبراير سنة ١٩٣١م.
التقرير ذاته تضمن مجموعة من المقترحات كان منها الاشتراك مع شركة الطيران البريطانية «Air Work» في تأليف شركة مصرية لمزاولة أعمال الطيران برأسمال قدره ١٢ ألف جنيه علي أن يكون للمصريين ٦٠% منه، وأن تقوم شركة مصر للطيران بكل أنواع الطيران المدني وتنشئ في أول الأمر مدارس لتعليم الطيران وإدارته وممارسة النقل الجوي، قدم البنك بعد ذلك باسم الشركة المزمعة مجموعة من المطالب، كان منها «أن تستخدم الشركة المكاتب الجوية في القطر المصري، نظير دفع رسوم مخفضة مع تخويلها حق الانتفاع بالمنشآت الخاصة بالمواصلات اللاسلكية والأرصاد الجوية، وأن تنشئ مدارس لتعليم الطيران المدني في مطارات الحكومة» وبعد أقل من شهرين وعرض الأمر برمته علي الملك، جاءت الأخبار أن الحكومة قد رحبت بالمشروع وأعربت عن نيتها أنها ستمنح الشركة أقصي ما تستطيعه من التسهيلات والمساعدة، وذلك رغبة في تشجيع الطيران المدني في القطر المصري، إلي أن وصل إلي مصر نائب عن جماعة من الفنيين الأجانب للتفاوض مع بنك مصر بهذا الشأن.
وفي صحيفة «الأهرام» يوم ٢٦ مايو سنة ١٩٣١، وتحت عنوان «شركة بنك مصر للطيران» جاء ما نصه أن رأس مال الشركة المزمعة ١٢ ألف جنيه، وأنه سيكون لديها في بداية الأمر خمس طائرات فقط، وبعد أقل من أسبوع نشرت الصحيفة ذاتها خبراً تحت عنوان «شركة مصر للطيران» بشرت فيه المصريين بأنها ستبدأ العمل في موسم الشتاء التالي، وأن همها الأول منصرف إلي إنشاء الشركة، وتأكيد وجودها دولياً.
مرحلة البناء من عام ١٩٣٢ إلي ١٩٥٢يمكن اعتبار الفترة من عام ١٩٣٢ إلي ١٩٥٢ هي مرحلة البناء الأولي والتأسيسية لشركة مصر للطيران ولما خرجت شركة مصر للطيران إلي حيز الوجود كانت أول شركة في المشرق العربي كله لتعليم الطيران وتسيير خطوط منتظمة، وقد بدأت عملها مقتصرة علي النزهات الجوية وتعليم الطيران مع تكثيف الدعاية. يذكر الدكتور «عبد اللطيف الصباغ» في كتابه الطيران المدني في مصر، أن الشركة عانت في هذه الفترة من عدم إقبال المسافرين، إذ لم يكن الطيران أمرًا مألوفًا بعد،
وعندما دخلت الشركة الميدان العملي- قبل تسيير الخطوط- وجدت أن رأس المال غير كافٍ فرفع مجلس الإدارة إلي الجمعية العمومية المنعقدة في ٢١ مارس ١٩٣٣ اقتراحًا بتفويضه في زيادة رأس المال إلي خمسة وسبعين ألف جنيه فوافقت الجمعية بل استجابت لاقتراح جبرائيل تقلا بجعل رأس المال ثمانين ألف جنيه وما لبث أن زاد اسطول الشركة في يوليو ١٩٣٣ إلي عشر طائرات وفي ١٣ أغسطس ١٩٣٣ افتتحت الشركة أول خطوطها بين القاهرة والإسكندرية بطائرة «فوكس موت» ذات محرك واحد وأربعة مقاعد في رحلتين يوميا وفي عام ١٩٣٥ أضافت الشركة لأسطولها سبع طائرات جديدة كان بينها طائرتان من طراز هافيلاند ذات أربعة محركات وأربعة عشر مقعدًا وبدأت الشركة في تسيير خطوط خارجية إلي فلسطين «١٥ فبراير ١٩٣٤» امتدت إلي قبرص وبغداد بين عامي ١٩٣٥ و١٩٣٦.
ويذكر أنه في عام ١٩٣٣ بعد عودة صدقي كان في مصر ثمانية طيارين كان علي رأسهم محمد صدقي وخليل الكاشف.وفي أبريل ١٩٣٥ كانت مصر قد حققت مركزًا دوليا ممتازًا بانتخابها عضوًا في الاتحاد الدولي للنقل الجوي، وكان كمال علوي قد سافر إلي بروكسل في ٢٢ أغسطس ١٩٣٥ لحضور اجتماع الاتحاد.
ومع قيام الحرب العالمية الثانية أعلنت الحكومة المصرية الأحكام العرفية مما استتبع ضرورة إعادة النظر في وضع الشركة، وكان قانون الأحكام العرفية لعام ١٩٣٣ يقضي باستيلاء الحكومة علي ممتلكات الشركة، وبعد دراسة الموضوع قرر وزير الدفاع الوطني الاستيلاء علي الشركة اعتبارًا من سبتمبر عام ١٩٣٩. وفي ٢٦ يوليو ١٩٥١ تم تعديل الاسم الاجنبي للشركة من Misr Air Work إلي Misr Air «مصر للطيران».
وشهد عام ٤٨ مولد ثاني شركات الطيران في مصر واسمها شركة الخطوط المصرية للطيران الدولي «سعيدة» التي تأسست بجهود النبيل سليمان داوود وساهم فيها الملك فاروق بمشاركة شركة فيات الايطالية وقد بدأت برأسمال قدره ربع مليون جنيه كان للجانب المصري فيها من رأس المال ٥٥% وبدأت بأسطول قوامه إحدي عشرة طائرة لكن سرعان ما تعرضت لأزمات مالية وتم تصفيتها في نوفمبر ١٩٥٢ لأسباب سياسية ومالية.
وكان عام ١٩٥٠قد شهد مولد الشركة المصرية الثالثة، وكان اسمها الشركة المصرية الهندسية للطيران علي يد مجموعة من رجال الأعمال ومحبي الطيران من بينهم رجال من مؤسسي مصر للطيران من أمثال محمد طاهر وكمال علوي لكن تم تصفيتها هي الأخري عام ١٩٥٣ لعجزها عن منافسة الشركة الأم.
حاذق.. من رواد الطيرانمن أوائل الطيارين في مسيرة الطيران المدني في مصر أيضاً كان الطيار محمد حاذق والذي نشرت له مجلة «اللطائف» صورة تذكارية وهو يرتدي «البدلة الرسمية والطربوش» وهو مستنداً إلي طائرته.. كان ذلك في عدد «اللطائف» المصورة في أول يناير ١٩٣١م، وقد أشار التعليق أسفل الصورة إلي أن ثمن تلك الطائرة كان ٥٥٠ جنيهاً، وكانت هناك أول سيدة «طيارة» في نفس العدد من «اللطائف» وهي «لطفية النادي» التي شاركت بطائرتها في سباق طائرات بين طيارين أجانب ومصريين، وفي اللطائف، نجد «للطفية» صورة جماعية تتصدرها وهي واقفة إلي جوار وزير الطيران البريطاني اللورد «لند ندري» وحرمه، وجمهور من علية القوم في مطار ألماظة يحيطون بالآنسة لطفية النادي الطائرة الجرئية عقب نزولها من طيارتها بعد عودتها من سباق السرعة،
ونجد لمحمد حاذق صوراً أخري داخل العدد ذاته من اللطائف إحداها له وهو واقف بزي الطيران أمام طائرته وتحت الصورة تعليق يقول: «الطيار الجريء الباسل محمد أفندي حاذق وهو شاب جميل الطلعة وسيم الوجه رشيق القامة عمره ١٩ عاماً وقد هوي الطيران منذ صغره وأبدي رغبته في السفر إلي الخارج ليتعلم هناك فحال والداه دون ذلك لأنه وحيد عائلته ومازال مصراً علي الطيران حتي تعلم في مطار ألماظة». وهناك أيضاً معلومات فنية عن طائرة محمد حاذق، فهي من طراز «كامبر سويفت» وقوة محركها ٨٥ حصاناً وسرعتها ١٦٠ كيلو متراً في الساعة.
ما بعد الثورة طيرانبعد قيام ثورة يوليو دخل الطيران المدني المصري منعطفاً جديداً وخطيراً، وقد بلغت الأزمة ذروتها في النصف الثاني من عام ١٩٥٢، فعماد الطيران المدني الأمن والسلامة، ولا يعمل في الأجواء السياسية المضطربة، فبدأت الاضرابات في ٢٦ يناير ١٩٥٢ بحريق القاهرة وما استتبعه من الإجراءات الأمنية المشددة، ومع قيام الثورة عمدت حكومة الثورة إلي اتخاذ إجراءات لتقييد السفر للخارج، ووضع المزيد من الضوابط والمحاذير أيضاً،
وبلغت خسائر الشركة نحو ١٣٥ ألف جنيه، فضلاً عما سببته إسرائيل من مضايقات للطيران المصري، الذي يمر بالمجال الجوي القريب من أجوائها، ومن بين هذه المضايقات ماحدث في ٩ أغسطس ١٩٥٤، إذ اعترضت ٦ طائرات حربية إسرائيلية طائرة تابعة لمصر للطيران، وهي في طريقها لبيروت صباحاً، واحتجت مصر رسمياً علي هذا السلوك الإسرائيلي، لكن هذه الأزمات استتبعتها زيادة في رأسمال الشركة لتدارك الخسائر فنجحت الشركة في استعادة توازنها، ومع استقرار الأوضاع حققت أرباحاً تقترب من سبعة وأربعين ألف جنيه. وفي عام ١٩٥٤ وعلي إثر انعقاد الجمعية العامة تقرر زيادة رأس المال بمبلغ سبعمائة ألف جنيه، ومن بعده شراء ثلاث طائرات «فايكونت» ذات الأربعة محركات، والتي تحمل ٤٤ راكباً، وتسلمتها الشركة في النصف الثاني من عام ١٩٥٥، وبعد عدوان ١٩٥٦ الذي استهدف المطارات المصرية، نقلت مصر للطيران في يوليو ١٩٥٦ حركة الخطوط من ألماظة إلي مطار القاهرة الحالي.
نساء رائدات في مجال الطيرانفي أوج ظاهرة تحرر المرأة وخروجها للعمل ومشاركتها في سائر الميادين الوطنية، ومن هذه الميادين كان مجال الطيران، وقد دشن لهذه الظاهرة فتيات مصريات كن رائدات في هذا المجال، ومن هؤلاء الفتيات (عصمت فؤاد) ابنة مدير مصلحة الكباري، والتي كان عمرها آنذاك أربعة عشر عاماً وكانت تدرس في مدرسة الراهبات بشبرا فما إن أعلنت مدرسة الطيران عن فتح أبوابها حتي لجأت عصمت إلي عمها الذي توسط لها عند طلعت حرب، والتحقت بالمدرسة وأثبتت حماسة وتفوقاً، حتي أمكنها التحليق منفردة حتي هنأها طلعت حرب بذلك، ثم ما لبثت أن لحقت بها الشقيقتان قدرية ثم عائشة إسماعيل شقيقة الطيار حجاج، لكن أياً منهن لم تحصل علي شهادة طيران لصغر سنهن، إذ يشترط في الحاصل عليها أن يكون عمره سبعة عشر عاماً، فانصرفن عن الطيران قبل بلوغهن هذه السن.
ولذلك فإن الدكتور عبداللطيف الصباغ في كتابه «الطيران المدني في مصر» يعتبر أن البداية الحقيقية للفتاة المصرية في مجال الطيران كانت مع «لطفية النادي» التي كانت تعمل سكرتيرة بشركة مصر للطيران وما لبث أن تعلقت بفن الطيران فالتحقت بمدرسة الشركة في ١٨ يوليو عام ١٩٣٣ وتمكنت من الطيران بمفردها بعد ثلاث عشرة ساعة من الطيران المزدوج مع مستر كارول كبير معلمي الطيران بالمدرسة فتعلمت في ٦٧ يوماً وقد تلقت الصحافة الدعوة لحضور الاختبار العملي لأول طيارة «كابتن» مصرية في أكتوبر ١٩٣٣ وكانت «لطفية» قد شاركت في الجزء الثاني من سباق الطيران الدولي الذي عقد في ديسمبر عام ١٩٣٣ وهو سباق سرعة بين القاهرة والإسكندرية وفازت لطفية بالمركز الأول.
لكن اللجنة حجبت عنها الجائزة لوقوعها في خطأ فني في الإسكندرية عندما نسيت الدوران حول النقطة المحددة وأوصت اللجنة بمنحها جائزة شرفية، وأرسلت لها هدي شعراوي برقية تهنئة تقول فيها: «شرفت وطنك، ورفعت رأسنا، وتوجت نهضتنا بتاج الفخر بارك الله فيك».
بل تولت هدي شعراوي مشروع اكتتاب من أجل شراء طائرة خاصة للطفية لتكون سفيرة لبنات مصر في البلاد التي تمر بأجوائها أو تنزل بها، وظلت لطفية تمارس الطيران فترة ثم عملت سكرتيرة لدي النبيل عباس حليم، وكانت قد فتحت الباب لبنات جنسها لخوض التجربة فلحقت بها زهرة رجب ونفيسة الغمراوي ولندا مسعود وبلانش فتوش وعزيزة محرم وعايدة تكلا وليلي مسعود وعائشة عبدالمقصود وقدرية طليمات.
ويذكر أن نفيسة الغمراوي كانت مفتشة تربية رياضية بوزارة المعارف، وكانت هواية الطيران قد جمعت بينها وبين تلميذة بالصف الثالث الثانوي هي «لندا مسعود».
ولم يقتصر زحف الجنس الناعم علي الطيران فقط بل امتد لتدريسه، ومن أوائل المعلمات كانت لندا مسعود وعزيزة محرم التي كانت تتقن خمس لغات، وتزوجت من معلمها علي ذهني واستمرت في التدريس بينما توقفت لندا مسعود بعد زواجها، ثم أحجمت فتيات مصر عن الطيران بصفة نهائية فلم تدخل مجال الطيران فتاة مصرية منذ عام ١٩٤٥
وراء مصر للطيران ملحمة طويلة ومسيرة حافلة، تعددت بداياتها وفصولها، الأمر الذي يعني أن المصريين يلحون علي الفكرة أكثر من محاولة إلي أن يتحول الحلم إلي حقيقة، وقد استعرضنا خمس بدايات لبداية ملحمة الطيران المدني المصري وهنا نرصد بدايات أخري وصولاً لعام ١٩٥٥.
(٦)أما البداية السادسة فتمثلت فيما نشرته الأهرام يوم الاثنين ١٢ يناير عام ١٩٣١ في وزارة «إسماعيل صدقي» وجاء الخبر تحت عنوان «في مطار ألماظة ـ وزير المواصلات وطلعت حرب بك يطيران في طيارة صغيرة».
وقد تضمن الخبر إشارة إلي أنه جرت في اليوم السابق حفلة أقيمت للطيران تمهيداً لمشروع إنشاء شركة له في مصر تحت إشراف ذلك المعهد الوطني الكبير وهو بنك مصر، وبهمة الرجل الكفء القدير طلعت حرب بك. وقدمت الصحيفة وصفاً تفصيلياً للحفل الذي كان حاضراً فيه «وزير المواصلات» ووكيل وزارة الخارجية، ومدير المشروعات ببنك مصر، والملحق التجاري بدار المندوب السامي بالقاهرة، ومدير قسم الطيران بوزارة المواصلات، و«الأمين الأول للملك» و«طلعت حرب» كل هؤلاء جاءوا ليشاهدوا مدير مطار هيستون بإنجلترا وهو يحلق بطائرته التي كانت من طراز «بوس موث» ذات الثلاثة مقاعد التي وصفتها الصحيفة بقولها «أحدها للطيار ومقعدان لراكبين ومقفلة اتقاء للبرد والهواء»، وبعد أن عرض الرجل طائرته وقام بجولة وعدة حركات دلت علي مهارته ركب صاحب العزة طلعت حرب بك لأول مرة طيارة، وحلق فوق مدينة هليوبوليس نحو عشر دقائق ولما نزل كان معجباً بالتجربة وذكر أنه لم يشعر بأي تعب، بل كأنه راكب سيارة مع عدم التقيد بحركة المرور وما فيها من مضايقة.
ويبدأ طلعت حرب ورجاله في بنك مصر في دراسة مشروع إنشاء شركة للطيران التجاري، وتقدموا به إلي وزارة المواصلات التي نشرت تفصيلاته في تقريرها السنوي الصادر في منتصف مارس من ذات السنة، وكان التقرير قد تضمن إشارة أيضاً للجهود المبذولة خلال السنوات الأربع السابقة لتحويل الحلم إلي حقيقة إذ تم في أعوام ١٩٢٧ و١٩٢٨ و١٩٢٩، إرسال ثلاث بعثات إلي إنجلترا للتخصص في الطيران التجاري، وأنه ـ علي حد وصف الصحيفة ـ «قدأنشئ أول خط جوي لنقل البريد والبضائع بين القاهرة والبصرة في يناير ١٩٢٧م، تم مده إلي كراتشي في الهند و«باكستان» في أبريل سنة ١٩٢٩م، ومن المتوقع أن يمتد في المستقبل القريب إلي ما وراء الهند الهولندية، أي «إندونيسيا» ومنها إلي أستراليا». وكان العام ذاته قد شهد إنشاء خط جوي آخر بين الإسكندرية وأوروبا «بطائرات مائية فوق البحر المتوسط» وفي العام التالي رخصت وزارة المواصلات إنشاء خط جوي ثالث بين القطر المصري وجنوب أفريقيا، افتتح قسمه الشمالي بين القاهرة وموانزا، وبذلك أصبحت مصر حلقة اتصال جوي بين أوروبا والهند وأفريقية».
وكان تقرير وزارة المواصلات قد تناول البرنامج الذي أعدته الحكومة لترويج الطيران المدني في القطر المصري بإنشاء ميناءين جويين تجاريين في كل من القاهرة «ألماظة» والثاني في الإسكندرية، كما ذكر أن الحكومة أنشأت الطرق اللازمة للميناء وقامت بتمهيدها لنزول الطائرات علي وجه يبعث علي الطمأنينة وأدخلت النور والكهرباء وأقامت سوراً حديديا جديداً حول الميناء، وأنشأت حظيرة للطيارات الخفيفة مع ملحقاتها، وكان قسم الطيران بوزارة المواصلات قد وضع التصميمات اللازمة لجعل الميناء صالحاً للطيران التجاري وقد افتتح فعلاً أول فبراير سنة ١٩٣١م.
التقرير ذاته تضمن مجموعة من المقترحات كان منها الاشتراك مع شركة الطيران البريطانية «Air Work» في تأليف شركة مصرية لمزاولة أعمال الطيران برأسمال قدره ١٢ ألف جنيه علي أن يكون للمصريين ٦٠% منه، وأن تقوم شركة مصر للطيران بكل أنواع الطيران المدني وتنشئ في أول الأمر مدارس لتعليم الطيران وإدارته وممارسة النقل الجوي، قدم البنك بعد ذلك باسم الشركة المزمعة مجموعة من المطالب، كان منها «أن تستخدم الشركة المكاتب الجوية في القطر المصري، نظير دفع رسوم مخفضة مع تخويلها حق الانتفاع بالمنشآت الخاصة بالمواصلات اللاسلكية والأرصاد الجوية، وأن تنشئ مدارس لتعليم الطيران المدني في مطارات الحكومة» وبعد أقل من شهرين وعرض الأمر برمته علي الملك، جاءت الأخبار أن الحكومة قد رحبت بالمشروع وأعربت عن نيتها أنها ستمنح الشركة أقصي ما تستطيعه من التسهيلات والمساعدة، وذلك رغبة في تشجيع الطيران المدني في القطر المصري، إلي أن وصل إلي مصر نائب عن جماعة من الفنيين الأجانب للتفاوض مع بنك مصر بهذا الشأن.
وفي صحيفة «الأهرام» يوم ٢٦ مايو سنة ١٩٣١، وتحت عنوان «شركة بنك مصر للطيران» جاء ما نصه أن رأس مال الشركة المزمعة ١٢ ألف جنيه، وأنه سيكون لديها في بداية الأمر خمس طائرات فقط، وبعد أقل من أسبوع نشرت الصحيفة ذاتها خبراً تحت عنوان «شركة مصر للطيران» بشرت فيه المصريين بأنها ستبدأ العمل في موسم الشتاء التالي، وأن همها الأول منصرف إلي إنشاء الشركة، وتأكيد وجودها دولياً.
مرحلة البناء من عام ١٩٣٢ إلي ١٩٥٢يمكن اعتبار الفترة من عام ١٩٣٢ إلي ١٩٥٢ هي مرحلة البناء الأولي والتأسيسية لشركة مصر للطيران ولما خرجت شركة مصر للطيران إلي حيز الوجود كانت أول شركة في المشرق العربي كله لتعليم الطيران وتسيير خطوط منتظمة، وقد بدأت عملها مقتصرة علي النزهات الجوية وتعليم الطيران مع تكثيف الدعاية. يذكر الدكتور «عبد اللطيف الصباغ» في كتابه الطيران المدني في مصر، أن الشركة عانت في هذه الفترة من عدم إقبال المسافرين، إذ لم يكن الطيران أمرًا مألوفًا بعد،
وعندما دخلت الشركة الميدان العملي- قبل تسيير الخطوط- وجدت أن رأس المال غير كافٍ فرفع مجلس الإدارة إلي الجمعية العمومية المنعقدة في ٢١ مارس ١٩٣٣ اقتراحًا بتفويضه في زيادة رأس المال إلي خمسة وسبعين ألف جنيه فوافقت الجمعية بل استجابت لاقتراح جبرائيل تقلا بجعل رأس المال ثمانين ألف جنيه وما لبث أن زاد اسطول الشركة في يوليو ١٩٣٣ إلي عشر طائرات وفي ١٣ أغسطس ١٩٣٣ افتتحت الشركة أول خطوطها بين القاهرة والإسكندرية بطائرة «فوكس موت» ذات محرك واحد وأربعة مقاعد في رحلتين يوميا وفي عام ١٩٣٥ أضافت الشركة لأسطولها سبع طائرات جديدة كان بينها طائرتان من طراز هافيلاند ذات أربعة محركات وأربعة عشر مقعدًا وبدأت الشركة في تسيير خطوط خارجية إلي فلسطين «١٥ فبراير ١٩٣٤» امتدت إلي قبرص وبغداد بين عامي ١٩٣٥ و١٩٣٦.
ويذكر أنه في عام ١٩٣٣ بعد عودة صدقي كان في مصر ثمانية طيارين كان علي رأسهم محمد صدقي وخليل الكاشف.وفي أبريل ١٩٣٥ كانت مصر قد حققت مركزًا دوليا ممتازًا بانتخابها عضوًا في الاتحاد الدولي للنقل الجوي، وكان كمال علوي قد سافر إلي بروكسل في ٢٢ أغسطس ١٩٣٥ لحضور اجتماع الاتحاد.
ومع قيام الحرب العالمية الثانية أعلنت الحكومة المصرية الأحكام العرفية مما استتبع ضرورة إعادة النظر في وضع الشركة، وكان قانون الأحكام العرفية لعام ١٩٣٣ يقضي باستيلاء الحكومة علي ممتلكات الشركة، وبعد دراسة الموضوع قرر وزير الدفاع الوطني الاستيلاء علي الشركة اعتبارًا من سبتمبر عام ١٩٣٩. وفي ٢٦ يوليو ١٩٥١ تم تعديل الاسم الاجنبي للشركة من Misr Air Work إلي Misr Air «مصر للطيران».
وشهد عام ٤٨ مولد ثاني شركات الطيران في مصر واسمها شركة الخطوط المصرية للطيران الدولي «سعيدة» التي تأسست بجهود النبيل سليمان داوود وساهم فيها الملك فاروق بمشاركة شركة فيات الايطالية وقد بدأت برأسمال قدره ربع مليون جنيه كان للجانب المصري فيها من رأس المال ٥٥% وبدأت بأسطول قوامه إحدي عشرة طائرة لكن سرعان ما تعرضت لأزمات مالية وتم تصفيتها في نوفمبر ١٩٥٢ لأسباب سياسية ومالية.
وكان عام ١٩٥٠قد شهد مولد الشركة المصرية الثالثة، وكان اسمها الشركة المصرية الهندسية للطيران علي يد مجموعة من رجال الأعمال ومحبي الطيران من بينهم رجال من مؤسسي مصر للطيران من أمثال محمد طاهر وكمال علوي لكن تم تصفيتها هي الأخري عام ١٩٥٣ لعجزها عن منافسة الشركة الأم.
حاذق.. من رواد الطيرانمن أوائل الطيارين في مسيرة الطيران المدني في مصر أيضاً كان الطيار محمد حاذق والذي نشرت له مجلة «اللطائف» صورة تذكارية وهو يرتدي «البدلة الرسمية والطربوش» وهو مستنداً إلي طائرته.. كان ذلك في عدد «اللطائف» المصورة في أول يناير ١٩٣١م، وقد أشار التعليق أسفل الصورة إلي أن ثمن تلك الطائرة كان ٥٥٠ جنيهاً، وكانت هناك أول سيدة «طيارة» في نفس العدد من «اللطائف» وهي «لطفية النادي» التي شاركت بطائرتها في سباق طائرات بين طيارين أجانب ومصريين، وفي اللطائف، نجد «للطفية» صورة جماعية تتصدرها وهي واقفة إلي جوار وزير الطيران البريطاني اللورد «لند ندري» وحرمه، وجمهور من علية القوم في مطار ألماظة يحيطون بالآنسة لطفية النادي الطائرة الجرئية عقب نزولها من طيارتها بعد عودتها من سباق السرعة،
ونجد لمحمد حاذق صوراً أخري داخل العدد ذاته من اللطائف إحداها له وهو واقف بزي الطيران أمام طائرته وتحت الصورة تعليق يقول: «الطيار الجريء الباسل محمد أفندي حاذق وهو شاب جميل الطلعة وسيم الوجه رشيق القامة عمره ١٩ عاماً وقد هوي الطيران منذ صغره وأبدي رغبته في السفر إلي الخارج ليتعلم هناك فحال والداه دون ذلك لأنه وحيد عائلته ومازال مصراً علي الطيران حتي تعلم في مطار ألماظة». وهناك أيضاً معلومات فنية عن طائرة محمد حاذق، فهي من طراز «كامبر سويفت» وقوة محركها ٨٥ حصاناً وسرعتها ١٦٠ كيلو متراً في الساعة.
ما بعد الثورة طيرانبعد قيام ثورة يوليو دخل الطيران المدني المصري منعطفاً جديداً وخطيراً، وقد بلغت الأزمة ذروتها في النصف الثاني من عام ١٩٥٢، فعماد الطيران المدني الأمن والسلامة، ولا يعمل في الأجواء السياسية المضطربة، فبدأت الاضرابات في ٢٦ يناير ١٩٥٢ بحريق القاهرة وما استتبعه من الإجراءات الأمنية المشددة، ومع قيام الثورة عمدت حكومة الثورة إلي اتخاذ إجراءات لتقييد السفر للخارج، ووضع المزيد من الضوابط والمحاذير أيضاً،
وبلغت خسائر الشركة نحو ١٣٥ ألف جنيه، فضلاً عما سببته إسرائيل من مضايقات للطيران المصري، الذي يمر بالمجال الجوي القريب من أجوائها، ومن بين هذه المضايقات ماحدث في ٩ أغسطس ١٩٥٤، إذ اعترضت ٦ طائرات حربية إسرائيلية طائرة تابعة لمصر للطيران، وهي في طريقها لبيروت صباحاً، واحتجت مصر رسمياً علي هذا السلوك الإسرائيلي، لكن هذه الأزمات استتبعتها زيادة في رأسمال الشركة لتدارك الخسائر فنجحت الشركة في استعادة توازنها، ومع استقرار الأوضاع حققت أرباحاً تقترب من سبعة وأربعين ألف جنيه. وفي عام ١٩٥٤ وعلي إثر انعقاد الجمعية العامة تقرر زيادة رأس المال بمبلغ سبعمائة ألف جنيه، ومن بعده شراء ثلاث طائرات «فايكونت» ذات الأربعة محركات، والتي تحمل ٤٤ راكباً، وتسلمتها الشركة في النصف الثاني من عام ١٩٥٥، وبعد عدوان ١٩٥٦ الذي استهدف المطارات المصرية، نقلت مصر للطيران في يوليو ١٩٥٦ حركة الخطوط من ألماظة إلي مطار القاهرة الحالي.
نساء رائدات في مجال الطيرانفي أوج ظاهرة تحرر المرأة وخروجها للعمل ومشاركتها في سائر الميادين الوطنية، ومن هذه الميادين كان مجال الطيران، وقد دشن لهذه الظاهرة فتيات مصريات كن رائدات في هذا المجال، ومن هؤلاء الفتيات (عصمت فؤاد) ابنة مدير مصلحة الكباري، والتي كان عمرها آنذاك أربعة عشر عاماً وكانت تدرس في مدرسة الراهبات بشبرا فما إن أعلنت مدرسة الطيران عن فتح أبوابها حتي لجأت عصمت إلي عمها الذي توسط لها عند طلعت حرب، والتحقت بالمدرسة وأثبتت حماسة وتفوقاً، حتي أمكنها التحليق منفردة حتي هنأها طلعت حرب بذلك، ثم ما لبثت أن لحقت بها الشقيقتان قدرية ثم عائشة إسماعيل شقيقة الطيار حجاج، لكن أياً منهن لم تحصل علي شهادة طيران لصغر سنهن، إذ يشترط في الحاصل عليها أن يكون عمره سبعة عشر عاماً، فانصرفن عن الطيران قبل بلوغهن هذه السن.
ولذلك فإن الدكتور عبداللطيف الصباغ في كتابه «الطيران المدني في مصر» يعتبر أن البداية الحقيقية للفتاة المصرية في مجال الطيران كانت مع «لطفية النادي» التي كانت تعمل سكرتيرة بشركة مصر للطيران وما لبث أن تعلقت بفن الطيران فالتحقت بمدرسة الشركة في ١٨ يوليو عام ١٩٣٣ وتمكنت من الطيران بمفردها بعد ثلاث عشرة ساعة من الطيران المزدوج مع مستر كارول كبير معلمي الطيران بالمدرسة فتعلمت في ٦٧ يوماً وقد تلقت الصحافة الدعوة لحضور الاختبار العملي لأول طيارة «كابتن» مصرية في أكتوبر ١٩٣٣ وكانت «لطفية» قد شاركت في الجزء الثاني من سباق الطيران الدولي الذي عقد في ديسمبر عام ١٩٣٣ وهو سباق سرعة بين القاهرة والإسكندرية وفازت لطفية بالمركز الأول.
لكن اللجنة حجبت عنها الجائزة لوقوعها في خطأ فني في الإسكندرية عندما نسيت الدوران حول النقطة المحددة وأوصت اللجنة بمنحها جائزة شرفية، وأرسلت لها هدي شعراوي برقية تهنئة تقول فيها: «شرفت وطنك، ورفعت رأسنا، وتوجت نهضتنا بتاج الفخر بارك الله فيك».
بل تولت هدي شعراوي مشروع اكتتاب من أجل شراء طائرة خاصة للطفية لتكون سفيرة لبنات مصر في البلاد التي تمر بأجوائها أو تنزل بها، وظلت لطفية تمارس الطيران فترة ثم عملت سكرتيرة لدي النبيل عباس حليم، وكانت قد فتحت الباب لبنات جنسها لخوض التجربة فلحقت بها زهرة رجب ونفيسة الغمراوي ولندا مسعود وبلانش فتوش وعزيزة محرم وعايدة تكلا وليلي مسعود وعائشة عبدالمقصود وقدرية طليمات.
ويذكر أن نفيسة الغمراوي كانت مفتشة تربية رياضية بوزارة المعارف، وكانت هواية الطيران قد جمعت بينها وبين تلميذة بالصف الثالث الثانوي هي «لندا مسعود».
ولم يقتصر زحف الجنس الناعم علي الطيران فقط بل امتد لتدريسه، ومن أوائل المعلمات كانت لندا مسعود وعزيزة محرم التي كانت تتقن خمس لغات، وتزوجت من معلمها علي ذهني واستمرت في التدريس بينما توقفت لندا مسعود بعد زواجها، ثم أحجمت فتيات مصر عن الطيران بصفة نهائية فلم تدخل مجال الطيران فتاة مصرية منذ عام ١٩٤٥