مقال يهمك
2010/07/24
في ذكرى ثورة يوليو .. اعترافات مثيرة لـ "حمروش
رغم أن البعض دأب فى السنوات الأخيرة على توجيه سهام النقد لثورة 23 يوليو 1952 وتحميلها وحدها مسئولية الركود السياسى الذى تعانى منه مصر منذ الإطاحة بالملكية ، إلا أن هناك من انتفض وقدم شهادات للتاريخ توضح أن هذا الحدث كان بمثابة حد فاصل بين حقبتين من التاريخ تغيرت فيهما معالم الأحداث بالعالم .
وبالنظر إلى التباين السابق فى تقييم تلك التجربة كان لابد في الذكرى الـ 58 لانطلاق الثورة من التطرق لمبررات وجهتى النظر السابقتين بهدف الوقوف على الحقيقة مع الأخذ فى الاعتبار أن انتقادها هو أمر مشروع لأن الثورات من مواريث الأمم ومن حقها أن تعيد النظر فى دروسها من مرحلة لأخري ، إلا أن هذا لا يعني المساس بإنجازاتها خاصة إن كانت لا تخطئها العين .
أرجوحة شيطانية وانقلاب عسكري
فالنسبة لمبررات وجهة النظر الأولى ، فإنها تستند إلى أن ثورة يوليو جرت النكبات علي مصر والعرب ، حيث انتقد الكاتب المصري الكبير الراحل نجيب محفوظ في تصريحات صحفية قرار تأميم قناة السويس ووصفه بأنه قرار متسرع جر علي مصر الخراب كما انتقد سياسة مجانية التعليم ، مشيرا إلى أنها أدت في النهاية إلي انخفاض مستوي التعليم وتخريج جيوش من العاطلين كما انتقد أيضا سياسة التأميم بالنظر إلى أنها أضرت بالقطاع العام ، أما بالنسبة للسياسة الخارجية ، فقد أشار محفوظ إلى أن سياسة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في مساعدة شعب الجزائر والتدخل في اليمن أدت إلي إضعاف مصر وتبديد مواردها.
كما تعرضت الثورة لهجوم متواصل من فؤاد سراج الدين الذى كان يشغل سكرتير عام حزب الوفد وذلك لإلغائها الحياة الحزبية وتأميم الممتلكات ، بل وهناك أيضا من اتهم الثورة بالانقلاب العسكرى ضد الديمقراطية في عهد الملك فاروق وذلك بالنظر إلى الاعتقالات الواسعة في صفوف معارضيها وخاصة الإخوان المسلمين والشيوعيين .
وبجانب ما سبق ، فهناك من وصف الثورة بأنها أرجوحة شيطانية ، حيث كتب المفكر المصرى اليسارى فؤاد زكريا فى بداية الثمانينات يقول :" إنها أرجوحة شيطانية يتراقص فيها الجميع سكاري بخمر الأفكار الزائفة والقيم المضللة ويثبتون بها علي نحو قاطع طفولية الفكر السياسي بين جميع أطراف اللعبة فى ثورة أعلنت أن هدفها تحرير الفكر وتصحيح مسار القيم" ، كما وصف الإخوان المسلمون الثورة بأنها "رجس من عمل الشيطان" ، وذلك بعد أن ناصبتهم العداء وتنكرت لمساعدتهم لها في بداياتها .
ثورة فريدة من نوعها
وفي المقابل ، ترى وجهة النظر الثانية أن القضاء على الإقطاع والاستبداد ومساندة حركات التحرر لعشرات البلدان فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وتأسيس حركة عدم الانحياز هى إنجازات لا يمكن أن تنتج سوى عن تجربة فريدة من نوعها.
فما حدث في 23 يوليو وفقا لتلك الرؤية لم يكن بأي حال من الأحوال انقلابا لأنه لم يكن يستهدف تغيير حكومة بحكومة أخرى وإنما كان ثورة حقيقية تهدف إلى إحداث تغيير جذري في الهيكل السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي حيث تحول نظام الحكم من ملكي إلى جمهوري خلال 3 أيام فقط بعد أن أجبر الملك فاروق على التنازل والرحيل إلى ايطاليا ، كما تخلص المصريون من الإقطاع وتم إقرار لون من ألوان العدالة الاجتماعية فثلاثة أرباع الموجودين الآن في الجامعات المصرية أتيحت لهم الفرصة بفضل التعليم الجامعي المجانى الذى تبنته الثورة كما تحول أغلبية المصريين المعدمين إلى ملاك أراضى بفضل قانون الإصلاح الزراعى.وبالإضافة إلى ما سبق ، فإن الحياة النيابية قبيل يوليو 52 كانت تسير من أسوأ لأسوأ فالدستور الذي أفرزته ثورة 1919 تم تعديله عدة مرات ليتيح سلطات أوسع بكثير للقصر ، وكان من نتيجة ذلك أن حزب الأغلبية "الوفد" لم يحكم البلاد منذ دستور 1923 حتى ثورة يوليو سوى ست سنوات ونصف السنة فقط ، ولذا فإن ما قام به تنظيم الضباط الأحرار كان أمرا لا غنى عنه . وفي رده على سؤال "ماذا تسمي ما حدث هل هو حركة مباركة كما يقول الجيش أم أنه كان انقلابا ؟"، أجاب عميد الأدب العربي الراحل الدكتور طه حسين ، قائلا :" انظروا حولكم تجدوا التغيير الذي كنا ننشده أليس ذلك ثورة على الأرض ".
وفي برنامج "العاشرة مساء" على قناة دريم المصرية ، سئل المؤرخ المصري الراحل يونان لبيب رزق "ماذا كان يمكن أن يحدث لو لم يتحرك الجيش يوم الأربعاء الثالث والعشرين من يوليو " وكان الرد أن حالة مصر وقتها كانت تقتضى التحرك ، فقد كان حتمية تاريخية .
الأرقام دليل البراءة
وفي كتاب له بعنوان "أصول ثورة يوليو " ، ذكر الدكتور جلال يحيي أستاذ التاريخ الحديث المساعد بكلية العلوم الإنسانية في جامعة أسيوط أن الظروف السياسية والعسكرية والاقتصادية فى مصر قبل يوليو 1952 كانت تتطلب الثورة لأن الأوضاع عموما كانت قد "تعفنت" وأصبح ضروريا تغييرها فمن الناحية السياسية كانت الحياة الدستورية فى البلاد لاتحمل من الدستور إلا الإسم فقط بعد استئثار الملك بسلطات واسعة وزاد عدد الأحزاب بإطراد وتنافس رؤساء تلك الأحزاب لإرضاء القصر ماتسبب في عدم استقرار الحكم وجعل البلاد في حاجة للاتحاد وليس الأحزاب.
أما بالنسبة للسياسة الخارجية ، فإنها فشلت تماما في معالجة قضايا الجلاء ووحدة وادي النيل مما جعل هناك ضرورة حتمية للنزول لميدان الكفاح لاستخلاص الحقوق الوطنية من الغاصبين.
والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بحسب الدكتور جلال يحيى أيضا لم تكن أقل سوءا ، فقبل قيام الثورة كان يبلغ تعداد الشعب المصري 21,472 مليون مواطن يعيش 68 % منهم في الريف وكان معدل الدخل الفردي لا يتجاوز 118 دولارا في العام , كما كانت صورة توزيع الدخل القومي تجسيدا لعدم العدالة والظلم الاجتماعي حيث كان 60 % من السكان يحصلون علي 18 % فقط من الدخل , كما أن الانتاج القومي لم يستطع ولمدة 40 عاما بين عام 1913 و 1952 أن يساير الارتفاع البسيط نسبيا في عدد السكان وقتها ، بالإضافة إلى أنه كان هناك نحو 2،309 مليون فلاح يمتلكون 1،230 مليون فدان أي أن 84 % من ملاك الأراضي كانوا يملكون 21 % من الأرض , وعلي الطرف الآخر كان 280 مالكا فقط يمتلكون 583,4 ألف فدان ! ، وبالطبع في ضوء هذا التدهور كان لابد من تغيير جذرى ومن هنا جاءت الثورة.
صحيح أنه كانت هناك أخطاء مثلما يحدث في كافة الثورات والتجارب الإنسانية كتجاهل مجلس قيادة الثورة والرئيس جمال عبد الناصر لمبدأ أساسي من مباديء الثورة الستة وهو تطبيق الديمقراطية بالإضافة إلى وقوع نكسة يونيو 1967 ، إلا أن هذا لا يقلل من أهمية الانجازات التى حققتها والتى لم يشهد التاريخ المصرى لها مثيلا كتأميم قناة السويس وبناء السد العالى وتحديد العروبة هوية مصر الأولى كما ألهمت الثورة حركات التحرير فى آسيا وإفريقيا ما دعا الزعيم الإفريقى نيلسون مانديلا إلى وصف عبد الناصر بـ "زعيم زعماء إفريقيا".
أعظم ثورات التاريخ الإنساني
أيضا ، فإن الرئيس المصري حسنى مبارك لم يفوت فرصة إلا وأشاد بثورة يوليو ، ففي خطاباته التي ألقاها في ذكرى الثورة ، أكد أنها من أعظم أحداث التاريخ المصري لأنها جسدت حلم شعب عظيم يتوق إلي الكرامة والعزة وينشد العدل والتقدم وجسدت آمال المصريين جميعا في وطن يظله العدل الاجتماعي ، كما جسدت فوق كل هذا حلم المصريين جميعا في وطن مرفوع الرأس موفور الكرامة لايجثم علي صدره احتلال بغيض يشل إرادته الوطنية وأقلية مستفيدة لا تكترث بمصالح الشعب أو حقوق ، مشيرا إلى أن الثورة غيرت وجه الحياة في مصر علي نحو جذري فأعادت للوطن استقلاله وكرامته وأعادت للأغلبية الساحقة اعتبارها وحقوقها وجعلت المهمة الأساسية للحكم هي انجاز التقدم والتنمية لصالح الإنسان المصري .وبجانب ماسبق ، أشار مبارك إلى أن الثورة تعتبر واحدة من أعظم ثورات التاريخ الإنساني لأنها نشرت رايات الحرية والاستقلال فوق بقاع كثيرة من العالم الثالث كانت ترزح تحت عبء الاستعمار ، فقد وقفت يوليو إلي جوار شعوب إفريقية وعربية عديدة تدعم نضالها من أجل الحرية بروح إنسانية تعلو علي دوافع المصلحة الصغيرة وحس تاريخي عظيم يتنزه عن نزعات الهيمنة والتسلط فكان طبيعيا أن ينتشر ضياء الثورة الأم فى أرجاء العالم الثالث يطارد الاستعمار ويطوى صفحاته .وهناك سمة فريدة أخرى تميزت بها ثورة يوليو - بحسب مبارك - وهي أنها أثبتت أن التحولات العظيمة فى حياة الأمم والشعوب يمكن أن تتم دون صراع عنيف يسفك الدم ويزهق الأرواح ويشق وحدة الوطن ويمزق قواه ، فقد كانت ثورة بيضاء ولم تفعل مافعلته ثورات أخرى أطلقت العنان للأحقاد والبغضاء ونوازع الانتقام.
وتابع " بالإضافة إلى أن ثورة يوليو كانت قادرة علي أن تصحح نفسها بنفسها في كل المراحل لمواكبة المتغيرات العالمية ، فهى لم تحبس نفسها في أطر عقائدية جامدة وبرغم ظروف الاستقطاب الحاد في عصر الحرب الباردة والعلاقة الخاصة مع الاتحاد السوفيتي استطاعت يوليو أن تخط لنفسها نهجا خاصا حافظ علي هويتها الوطنية والقومية وحافظ علي استقلال قرارها السياسي ".
واستطرد مبارك قائلا : " إن الثورة لم تكن عملا انقلابيا استهدف الاستيلاء علي السلطة ولم تكن مجرد حركة قام بها عدد من ضباط الجيش غضبا من واقع بغيض ومرفوض وإنما كانت في حقيقتها تتويجا لنضال شعب عظيم تواصل علي مر السنين ابتداء من ثورة عمر مكرم إلي وقفة عرابي الشهيرة في ميدان عابدين إلي نضال الوفد المصري تحت قيادة سعد زغلول ومصطفي النحاس ضد نظام ناصب الحركة الوطنية العداء وتآمر مع الاحتلال وأهدر حقوق الأغلبية الساحقة للشعب المصري ، ولذا صاغت الثورة مبادئها وأهدافها من نضال الجماهير المصرية التي كانت تتوق إلي العدل والتقدم وتنشد وطنا أبيا يرفض الخضوع للاستبداد والاستعمار".
والخلاصة أنه أيا كان توصيف ما حدث في 23 يوليو ، فإن هناك عدة أشياء انفردت بها الثورة ومنها أن من قام بها هو تنظيم الضباط الأحرار الذي كان يضم ضباطا من مختلف الاتجاهات السياسية وليس قادة جيوش أو أصحاب رتب كبيرة كما كان يحدث في الانقلابات العسكرية في العالم ، وهذا قد ينفى عنها شبهة الانقلاب .
وهناك أيضا أن الثورة اكتسبت تأييدا شعبيا جارفا من ملايين الفلاحين ومحدودي الدخل الذين كانوا يعيشون حياة تتسم بالمرارة والمعاناة ، كما تميزت بالمرونة وعدم الجمود في سياستها الخارجية ، فبعد رفض أمريكا إمدادها بالسلاح وسحب عرضها في بناء السد العالي ، اتجهت إلى أطراف أخرى من أجل تنفيذ المشروعات القومية الكبرى ، وأخيرا فإنها تبقى الأكثر أهمية في تاريخ مصر المعاصر ، حيث كانت بداية لمشروع قومي عروبي حضاري ومازالت أطروحاتها محل جدل واسع سواء كان ذلك في مصر أو فى الوطن العربي.
اعترافات مثيرة
ولعل إلقاء نظرة على شهادات واعترافات أبرز من شاركوا في صنع هذا الحدث التاريخي كان ضروريا في الذكرى الـ 58 للثورة وذلك لمساعدة الأجيال الجديدة على الاقتراب من حقيقة ما جرى حينها وتقييمها في ضوء الظروف التي عاصرتها وليس بما يحدث في عالم اليوم .
فقد استضاف برنامج "اختراق" الذي يذاع على التليفزيون المصري في 21 يوليو / تموز وقبل يومين من إحياء ذكرى الثورة عددا من الضباط الأحرار الذين شاركوا فيها ، حيث أدلى كل منهم بشهادته حول اللحظات الأخيرة التى سبقت قيام الثورة .
والبداية مع الأستاذ أحمد حمروش أحد أبرز مؤرخي الثورة الذي كشف أن الضباط الأحرار تأكدوا أن السراى لديها قائمة بأسماء 12 ضابطا هم المسئولين عن قيادة تحريك الضباط وتقرر اعتقالهم فكان عليهم أن يتحركوا بأقصى سرعة قبل أن ينجح رجال الملك فى الإيقاع بهم فأخذ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قرارا منفردا بتعجيل موعد التحرك من أغسطس/آب إلى يوليو/تموز 1952 .ومن جانبه ، كشف اللواء جمال حماد أحد الضباط الأحرار عن تكليفه من قبل الرئيس عبد الناصر بكتابة البيان الأول للثورة لأنه أديب وشاعر وكان من المفروض أن يلقيه هو ، لكن تغيرت التعليمات في اللحظة الأخيرة وألقاه أنور السادات بعد تكليف جمال حماد بالتوجه لطريق السويس للتصدي للقوات الإنجليزية التى من المتوقع توجهها للقاهرة.
وفي السياق ذاته ، كشف توفيق عبده إسماعيل وكان من الضباط الأحرار أيضا عن مفاجأتين حدثتا بعد إذاعة البيان الأول ، فقد نزل شعب مصر كله في الشارع في تجمعات غير طبيعية لتأييد الثورة ، أما المفاجأة الثانية فهي أن الضباط الأحرار كانوا يمثلوا 5% من ضباط الجيش وانضم إليهم بعد ذلك بقية الـ 95 % من ضباط الجيش.
وعن مصير الملك السابق فاروق ، قال إبراهيم بغدادى وكان من الضباط الأحرار أيضا إنه لم يكن واضحا في اللحظات الأولى وانقسمت الآراء حوله ما بين مطالبة برحيله أو إعدامه وهو ما اقترحه جمال سالم ولكن رفضه بقية الضباط الأحرار واتفقوا على رحيله من مصر.
وأخيرا ، تحدث خالد محيى الدين أحد أبرز الضباط الأحرار عن الاعتقالات التي تلت قيام الثورة ، قائلا :" إنها أمر طبيعى ما دام يوجد تصادم في الأهداف والمسيرة ، لابد من إجراءات رادعة للحرية للسيطرة على الأمور".
الشهادات والاعترافات السابقة تكشف الظروف التي أحاطت بالثورة والتحديات التي واجهتها ورغم اتفاق أو اختلاف البعض معها إلا أن ثورة 23 يوليو 1952 تظل على رأس الأحداث التي يرسمها التاريخ بحروف من نور ليس فقط لأنها كانت ثورة بيضاء لم تسقط خلالها قطرة دم واحدة وإنما أيضا لأنها كانت الشرارة التي انتفضت على إثرها دول العالم الثالث ضد الاستعمار رافعة رايات الحرية والاستقلال .
وبالنظر إلى التباين السابق فى تقييم تلك التجربة كان لابد في الذكرى الـ 58 لانطلاق الثورة من التطرق لمبررات وجهتى النظر السابقتين بهدف الوقوف على الحقيقة مع الأخذ فى الاعتبار أن انتقادها هو أمر مشروع لأن الثورات من مواريث الأمم ومن حقها أن تعيد النظر فى دروسها من مرحلة لأخري ، إلا أن هذا لا يعني المساس بإنجازاتها خاصة إن كانت لا تخطئها العين .
أرجوحة شيطانية وانقلاب عسكري
فالنسبة لمبررات وجهة النظر الأولى ، فإنها تستند إلى أن ثورة يوليو جرت النكبات علي مصر والعرب ، حيث انتقد الكاتب المصري الكبير الراحل نجيب محفوظ في تصريحات صحفية قرار تأميم قناة السويس ووصفه بأنه قرار متسرع جر علي مصر الخراب كما انتقد سياسة مجانية التعليم ، مشيرا إلى أنها أدت في النهاية إلي انخفاض مستوي التعليم وتخريج جيوش من العاطلين كما انتقد أيضا سياسة التأميم بالنظر إلى أنها أضرت بالقطاع العام ، أما بالنسبة للسياسة الخارجية ، فقد أشار محفوظ إلى أن سياسة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في مساعدة شعب الجزائر والتدخل في اليمن أدت إلي إضعاف مصر وتبديد مواردها.
كما تعرضت الثورة لهجوم متواصل من فؤاد سراج الدين الذى كان يشغل سكرتير عام حزب الوفد وذلك لإلغائها الحياة الحزبية وتأميم الممتلكات ، بل وهناك أيضا من اتهم الثورة بالانقلاب العسكرى ضد الديمقراطية في عهد الملك فاروق وذلك بالنظر إلى الاعتقالات الواسعة في صفوف معارضيها وخاصة الإخوان المسلمين والشيوعيين .
وبجانب ما سبق ، فهناك من وصف الثورة بأنها أرجوحة شيطانية ، حيث كتب المفكر المصرى اليسارى فؤاد زكريا فى بداية الثمانينات يقول :" إنها أرجوحة شيطانية يتراقص فيها الجميع سكاري بخمر الأفكار الزائفة والقيم المضللة ويثبتون بها علي نحو قاطع طفولية الفكر السياسي بين جميع أطراف اللعبة فى ثورة أعلنت أن هدفها تحرير الفكر وتصحيح مسار القيم" ، كما وصف الإخوان المسلمون الثورة بأنها "رجس من عمل الشيطان" ، وذلك بعد أن ناصبتهم العداء وتنكرت لمساعدتهم لها في بداياتها .
ثورة فريدة من نوعها
وفي المقابل ، ترى وجهة النظر الثانية أن القضاء على الإقطاع والاستبداد ومساندة حركات التحرر لعشرات البلدان فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وتأسيس حركة عدم الانحياز هى إنجازات لا يمكن أن تنتج سوى عن تجربة فريدة من نوعها.
فما حدث في 23 يوليو وفقا لتلك الرؤية لم يكن بأي حال من الأحوال انقلابا لأنه لم يكن يستهدف تغيير حكومة بحكومة أخرى وإنما كان ثورة حقيقية تهدف إلى إحداث تغيير جذري في الهيكل السياسي والاقتصادي والثقافي والاجتماعي حيث تحول نظام الحكم من ملكي إلى جمهوري خلال 3 أيام فقط بعد أن أجبر الملك فاروق على التنازل والرحيل إلى ايطاليا ، كما تخلص المصريون من الإقطاع وتم إقرار لون من ألوان العدالة الاجتماعية فثلاثة أرباع الموجودين الآن في الجامعات المصرية أتيحت لهم الفرصة بفضل التعليم الجامعي المجانى الذى تبنته الثورة كما تحول أغلبية المصريين المعدمين إلى ملاك أراضى بفضل قانون الإصلاح الزراعى.وبالإضافة إلى ما سبق ، فإن الحياة النيابية قبيل يوليو 52 كانت تسير من أسوأ لأسوأ فالدستور الذي أفرزته ثورة 1919 تم تعديله عدة مرات ليتيح سلطات أوسع بكثير للقصر ، وكان من نتيجة ذلك أن حزب الأغلبية "الوفد" لم يحكم البلاد منذ دستور 1923 حتى ثورة يوليو سوى ست سنوات ونصف السنة فقط ، ولذا فإن ما قام به تنظيم الضباط الأحرار كان أمرا لا غنى عنه . وفي رده على سؤال "ماذا تسمي ما حدث هل هو حركة مباركة كما يقول الجيش أم أنه كان انقلابا ؟"، أجاب عميد الأدب العربي الراحل الدكتور طه حسين ، قائلا :" انظروا حولكم تجدوا التغيير الذي كنا ننشده أليس ذلك ثورة على الأرض ".
وفي برنامج "العاشرة مساء" على قناة دريم المصرية ، سئل المؤرخ المصري الراحل يونان لبيب رزق "ماذا كان يمكن أن يحدث لو لم يتحرك الجيش يوم الأربعاء الثالث والعشرين من يوليو " وكان الرد أن حالة مصر وقتها كانت تقتضى التحرك ، فقد كان حتمية تاريخية .
الأرقام دليل البراءة
وفي كتاب له بعنوان "أصول ثورة يوليو " ، ذكر الدكتور جلال يحيي أستاذ التاريخ الحديث المساعد بكلية العلوم الإنسانية في جامعة أسيوط أن الظروف السياسية والعسكرية والاقتصادية فى مصر قبل يوليو 1952 كانت تتطلب الثورة لأن الأوضاع عموما كانت قد "تعفنت" وأصبح ضروريا تغييرها فمن الناحية السياسية كانت الحياة الدستورية فى البلاد لاتحمل من الدستور إلا الإسم فقط بعد استئثار الملك بسلطات واسعة وزاد عدد الأحزاب بإطراد وتنافس رؤساء تلك الأحزاب لإرضاء القصر ماتسبب في عدم استقرار الحكم وجعل البلاد في حاجة للاتحاد وليس الأحزاب.
أما بالنسبة للسياسة الخارجية ، فإنها فشلت تماما في معالجة قضايا الجلاء ووحدة وادي النيل مما جعل هناك ضرورة حتمية للنزول لميدان الكفاح لاستخلاص الحقوق الوطنية من الغاصبين.
والأوضاع الاقتصادية والاجتماعية بحسب الدكتور جلال يحيى أيضا لم تكن أقل سوءا ، فقبل قيام الثورة كان يبلغ تعداد الشعب المصري 21,472 مليون مواطن يعيش 68 % منهم في الريف وكان معدل الدخل الفردي لا يتجاوز 118 دولارا في العام , كما كانت صورة توزيع الدخل القومي تجسيدا لعدم العدالة والظلم الاجتماعي حيث كان 60 % من السكان يحصلون علي 18 % فقط من الدخل , كما أن الانتاج القومي لم يستطع ولمدة 40 عاما بين عام 1913 و 1952 أن يساير الارتفاع البسيط نسبيا في عدد السكان وقتها ، بالإضافة إلى أنه كان هناك نحو 2،309 مليون فلاح يمتلكون 1،230 مليون فدان أي أن 84 % من ملاك الأراضي كانوا يملكون 21 % من الأرض , وعلي الطرف الآخر كان 280 مالكا فقط يمتلكون 583,4 ألف فدان ! ، وبالطبع في ضوء هذا التدهور كان لابد من تغيير جذرى ومن هنا جاءت الثورة.
صحيح أنه كانت هناك أخطاء مثلما يحدث في كافة الثورات والتجارب الإنسانية كتجاهل مجلس قيادة الثورة والرئيس جمال عبد الناصر لمبدأ أساسي من مباديء الثورة الستة وهو تطبيق الديمقراطية بالإضافة إلى وقوع نكسة يونيو 1967 ، إلا أن هذا لا يقلل من أهمية الانجازات التى حققتها والتى لم يشهد التاريخ المصرى لها مثيلا كتأميم قناة السويس وبناء السد العالى وتحديد العروبة هوية مصر الأولى كما ألهمت الثورة حركات التحرير فى آسيا وإفريقيا ما دعا الزعيم الإفريقى نيلسون مانديلا إلى وصف عبد الناصر بـ "زعيم زعماء إفريقيا".
أعظم ثورات التاريخ الإنساني
أيضا ، فإن الرئيس المصري حسنى مبارك لم يفوت فرصة إلا وأشاد بثورة يوليو ، ففي خطاباته التي ألقاها في ذكرى الثورة ، أكد أنها من أعظم أحداث التاريخ المصري لأنها جسدت حلم شعب عظيم يتوق إلي الكرامة والعزة وينشد العدل والتقدم وجسدت آمال المصريين جميعا في وطن يظله العدل الاجتماعي ، كما جسدت فوق كل هذا حلم المصريين جميعا في وطن مرفوع الرأس موفور الكرامة لايجثم علي صدره احتلال بغيض يشل إرادته الوطنية وأقلية مستفيدة لا تكترث بمصالح الشعب أو حقوق ، مشيرا إلى أن الثورة غيرت وجه الحياة في مصر علي نحو جذري فأعادت للوطن استقلاله وكرامته وأعادت للأغلبية الساحقة اعتبارها وحقوقها وجعلت المهمة الأساسية للحكم هي انجاز التقدم والتنمية لصالح الإنسان المصري .وبجانب ماسبق ، أشار مبارك إلى أن الثورة تعتبر واحدة من أعظم ثورات التاريخ الإنساني لأنها نشرت رايات الحرية والاستقلال فوق بقاع كثيرة من العالم الثالث كانت ترزح تحت عبء الاستعمار ، فقد وقفت يوليو إلي جوار شعوب إفريقية وعربية عديدة تدعم نضالها من أجل الحرية بروح إنسانية تعلو علي دوافع المصلحة الصغيرة وحس تاريخي عظيم يتنزه عن نزعات الهيمنة والتسلط فكان طبيعيا أن ينتشر ضياء الثورة الأم فى أرجاء العالم الثالث يطارد الاستعمار ويطوى صفحاته .وهناك سمة فريدة أخرى تميزت بها ثورة يوليو - بحسب مبارك - وهي أنها أثبتت أن التحولات العظيمة فى حياة الأمم والشعوب يمكن أن تتم دون صراع عنيف يسفك الدم ويزهق الأرواح ويشق وحدة الوطن ويمزق قواه ، فقد كانت ثورة بيضاء ولم تفعل مافعلته ثورات أخرى أطلقت العنان للأحقاد والبغضاء ونوازع الانتقام.
وتابع " بالإضافة إلى أن ثورة يوليو كانت قادرة علي أن تصحح نفسها بنفسها في كل المراحل لمواكبة المتغيرات العالمية ، فهى لم تحبس نفسها في أطر عقائدية جامدة وبرغم ظروف الاستقطاب الحاد في عصر الحرب الباردة والعلاقة الخاصة مع الاتحاد السوفيتي استطاعت يوليو أن تخط لنفسها نهجا خاصا حافظ علي هويتها الوطنية والقومية وحافظ علي استقلال قرارها السياسي ".
واستطرد مبارك قائلا : " إن الثورة لم تكن عملا انقلابيا استهدف الاستيلاء علي السلطة ولم تكن مجرد حركة قام بها عدد من ضباط الجيش غضبا من واقع بغيض ومرفوض وإنما كانت في حقيقتها تتويجا لنضال شعب عظيم تواصل علي مر السنين ابتداء من ثورة عمر مكرم إلي وقفة عرابي الشهيرة في ميدان عابدين إلي نضال الوفد المصري تحت قيادة سعد زغلول ومصطفي النحاس ضد نظام ناصب الحركة الوطنية العداء وتآمر مع الاحتلال وأهدر حقوق الأغلبية الساحقة للشعب المصري ، ولذا صاغت الثورة مبادئها وأهدافها من نضال الجماهير المصرية التي كانت تتوق إلي العدل والتقدم وتنشد وطنا أبيا يرفض الخضوع للاستبداد والاستعمار".
والخلاصة أنه أيا كان توصيف ما حدث في 23 يوليو ، فإن هناك عدة أشياء انفردت بها الثورة ومنها أن من قام بها هو تنظيم الضباط الأحرار الذي كان يضم ضباطا من مختلف الاتجاهات السياسية وليس قادة جيوش أو أصحاب رتب كبيرة كما كان يحدث في الانقلابات العسكرية في العالم ، وهذا قد ينفى عنها شبهة الانقلاب .
وهناك أيضا أن الثورة اكتسبت تأييدا شعبيا جارفا من ملايين الفلاحين ومحدودي الدخل الذين كانوا يعيشون حياة تتسم بالمرارة والمعاناة ، كما تميزت بالمرونة وعدم الجمود في سياستها الخارجية ، فبعد رفض أمريكا إمدادها بالسلاح وسحب عرضها في بناء السد العالي ، اتجهت إلى أطراف أخرى من أجل تنفيذ المشروعات القومية الكبرى ، وأخيرا فإنها تبقى الأكثر أهمية في تاريخ مصر المعاصر ، حيث كانت بداية لمشروع قومي عروبي حضاري ومازالت أطروحاتها محل جدل واسع سواء كان ذلك في مصر أو فى الوطن العربي.
اعترافات مثيرة
ولعل إلقاء نظرة على شهادات واعترافات أبرز من شاركوا في صنع هذا الحدث التاريخي كان ضروريا في الذكرى الـ 58 للثورة وذلك لمساعدة الأجيال الجديدة على الاقتراب من حقيقة ما جرى حينها وتقييمها في ضوء الظروف التي عاصرتها وليس بما يحدث في عالم اليوم .
فقد استضاف برنامج "اختراق" الذي يذاع على التليفزيون المصري في 21 يوليو / تموز وقبل يومين من إحياء ذكرى الثورة عددا من الضباط الأحرار الذين شاركوا فيها ، حيث أدلى كل منهم بشهادته حول اللحظات الأخيرة التى سبقت قيام الثورة .
والبداية مع الأستاذ أحمد حمروش أحد أبرز مؤرخي الثورة الذي كشف أن الضباط الأحرار تأكدوا أن السراى لديها قائمة بأسماء 12 ضابطا هم المسئولين عن قيادة تحريك الضباط وتقرر اعتقالهم فكان عليهم أن يتحركوا بأقصى سرعة قبل أن ينجح رجال الملك فى الإيقاع بهم فأخذ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قرارا منفردا بتعجيل موعد التحرك من أغسطس/آب إلى يوليو/تموز 1952 .ومن جانبه ، كشف اللواء جمال حماد أحد الضباط الأحرار عن تكليفه من قبل الرئيس عبد الناصر بكتابة البيان الأول للثورة لأنه أديب وشاعر وكان من المفروض أن يلقيه هو ، لكن تغيرت التعليمات في اللحظة الأخيرة وألقاه أنور السادات بعد تكليف جمال حماد بالتوجه لطريق السويس للتصدي للقوات الإنجليزية التى من المتوقع توجهها للقاهرة.
وفي السياق ذاته ، كشف توفيق عبده إسماعيل وكان من الضباط الأحرار أيضا عن مفاجأتين حدثتا بعد إذاعة البيان الأول ، فقد نزل شعب مصر كله في الشارع في تجمعات غير طبيعية لتأييد الثورة ، أما المفاجأة الثانية فهي أن الضباط الأحرار كانوا يمثلوا 5% من ضباط الجيش وانضم إليهم بعد ذلك بقية الـ 95 % من ضباط الجيش.
وعن مصير الملك السابق فاروق ، قال إبراهيم بغدادى وكان من الضباط الأحرار أيضا إنه لم يكن واضحا في اللحظات الأولى وانقسمت الآراء حوله ما بين مطالبة برحيله أو إعدامه وهو ما اقترحه جمال سالم ولكن رفضه بقية الضباط الأحرار واتفقوا على رحيله من مصر.
وأخيرا ، تحدث خالد محيى الدين أحد أبرز الضباط الأحرار عن الاعتقالات التي تلت قيام الثورة ، قائلا :" إنها أمر طبيعى ما دام يوجد تصادم في الأهداف والمسيرة ، لابد من إجراءات رادعة للحرية للسيطرة على الأمور".
الشهادات والاعترافات السابقة تكشف الظروف التي أحاطت بالثورة والتحديات التي واجهتها ورغم اتفاق أو اختلاف البعض معها إلا أن ثورة 23 يوليو 1952 تظل على رأس الأحداث التي يرسمها التاريخ بحروف من نور ليس فقط لأنها كانت ثورة بيضاء لم تسقط خلالها قطرة دم واحدة وإنما أيضا لأنها كانت الشرارة التي انتفضت على إثرها دول العالم الثالث ضد الاستعمار رافعة رايات الحرية والاستقلال .
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)
مدونتي صديقتي
أنا انثي لاأنحني كــي ألتقط ماسقط من عيني أبــــدا