ولد علي صالح عبد الفتاح الجارم سنة 1881م في مدينة رشيد بمحافظة الجيزة بمصر ، وكان يحب مدينته وكتب يقول فيها :
جــدّدي يـــا رشيدُ للـــحـبّ عَهْدَا
حَسْبُنا حســــــبُنا مِطالاً وصــدَّا
جــدّدي يـــا مدينة َ السحرِ أحــلا
ماً وعْيشاً طَلْقَ الأسارير رَغـْـدا
جــدّدي لمحة ً مضتْ مــن شبابٍ
مــثــل زهـر الربا يرِفُّ ويندَى
وابعثي صَحْوة ً أغار عليها الشــ
يْبُ حتَّى غـدتْ عَــنـاءً وسـُهـدا
وتعالَى ْ نــعــيـشُ في جَنَّة ِ الـمـا
ضـي إذا لم نجِدْ مـن العيشِ بـُدّا
ذِكْرياتٌ لــو كــان للــدهـــرِ عِقْدٌ
كـنّ فــي جِيدِ سالفِ الدهر عِقدا
أولى قصائد الجارم كانت بعنوان "الوباء" عام 1895م، عندما اجتاحت جرثومة "الكوليرا" بلده رشيد وحصدت الأرواح، وقد قال فيها مخاطبًا هذا المكروب اللعين:
أي هــذا الــمـكـروب مــهــلا قليلا
قد تجاوزت في سـراك الـسـبـيلا
لست كالواو أنت كالمنجل الحصاد
إن أحــسـنـوا لك الـتــمــثـــيـــلا
العلم ميزان الحياة عند الشاعر تعلم الجارم في الأزهر ودار العلوم وتخرج منها سنة 1908، ثم بعث على انجلترا فأقام سنة بمدينة توتنجهام درس اللغة الإنجليزية ، وكان محبا للعلم بصورة كبيرة مرددا :
والْعِلْمُ مِيزانُ الْحَياة ِ فإِنْ هَوَى
هَوَتِ الْحَياة ُ لأَسْفلِ الأَدْرَاك
ومن النوادر أنه في عام 1910م شاهد الضباب في إنجلترا يتكاثف، فإذا المبصرون أنفسهم يضلون الطريق حائرين، وإذا العميان يقودونهم خلال هذا الضباب، فكتب يقول :
أبصرت أعمى في الضباب بلندن
يــمـشـي فـلا يـشـكـو ولا يــتــأوه
فـأتـاه يـسـألـه الـهـدايـة مـبـصـــر
حـيـران يـخبـط في الظلام ويعمه
فـاقـتـاده الأعـمـى فــســار وراءه
أنـىّ تــوجـــه خــطــوه يـتـوجـــه
التحق الجارم بالكلية الجامعة بـ اكستر ومكث بها ثلاث سنوات درس خلالها علم النفس وعلوم التربية والمنطق والأدب الإنجليزي، حصل على إجازة في كل المواد وعاد إلى مصر في أغسطس سنة 1912 ، ثم عين مدرسا بمدرسة التجارة المتوسطة ثم نقل منها بعد سنة على دار العلوم مدرسا لعلوم التربية، في مايو سنة 1917 نقل مفتشا بوزارة المعارف..ثم رقي إلى وظيفة كبير مفتشي اللغة العربية وظل فيها حتي 1940 حين نقلا وكيلا لدار العلوم وظل فيها إلى أن أحيل إلى المعاش سنة 1942.
ابنه أحمد علي الجارم وهو طبيب وأستاذ الأمراض الباطنة بكلية الطب جامعة القاهرة 1972 ، أنشأ قسم الأمراض المتوطنة بكليات الطب بجامعة القاهرة وطنطا والأزهر ، عضو مجمع اللغة العربية 2003 ، أعاد طبع الأعمال الشعرية والنثرية والأدبية واللغوية الكاملة للمرحوم والده الشاعر الكبير.
كان أديبا موسوعيا متعدد المواهب، جمع بين موهبة الشعر والنثر الأدبي.. فكان شاعرًا وقاصًا وروائيًا وناقدا ولغويا ونحويًا وتربويًا، عاصر كبار الشعراء والأدباء مثل شوقي وحافظ وطه حسين ومطران، وأسهم بزاد وافر في مجال الشعر والقصة والبلاغة والتاريخ الأدبي ، تفرغ الجارم للأدب بعد إحالته على المعاش وحينما انشأ ..مجمع اللغة العربية كان من أعضائه المؤسسين، وكانت له جهود في التعريب , إذ عرب كتاب "قصة العرب في أسبانيا".
وأسهم في التأريخ للأدب العربي بتأليفه كتاب "تاريخ الأدب العربي" مع آخرين، وفي مجال اللغة ألف الكثير من الكتب منها "النحو الواضح" و"البلاغة الواضحة", ترك الجارم تراثا نثريا يكاد يزيد عن تراثه الشعري كما أن بعض معاصريه اعتبروا رواياته التاريخية أهم من نثر أحمد شوقي وكان أبرزها الأعمال النثرية الكاملة التي صدرت في القاهرة عن الدار المصرية اللبنانية وتقع في 1040 صفحة تضمها ثلاثة مجلدات.
وقال أحمد علي الجارم – نجل الأديب الراحل- في مقدمة الجزء الأول إن والده كتب عشر روايات، مشيرا إلى أن ما اعتبره تأخرا في اهتمام الدارسين بتراث الجارم يعود إلى عدم إتاحة أعماله لفترة زمنية طويلة، حين منعت الرقابة العسكرية إبان حكم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر إعادة طبع مؤلفات الجارم بالإضافة إلى "مؤامرة الصمت" التي حيكت حوله في هذا العهد.
وضم المجلد الأول روايات فارس بني حمدان التي كتبها في العام 1945 والشاعر الطموح المتنبي وخاتمة المطاف في نهاية المتنبي ، في حين ضم المجلدان الثاني والثالث قصتي الفارس الملثم (1949) والسهم المسموم التي نشرت عام 1950 بعد وفاته إضافة إلى روايات مرح الوليد في سيرة يزيد الأموي ، وسيدة القصور آخر أيام الفاطميين في مصر(1944) وغادة رشيد التي كانت في السنوات الماضية مقررة على طلاب المدارس الثانوية في مصر وتتناول كفاح الشعب ضد الاستعمار الفرنسي (1798 – 1801)، رواية هاتف من الأندلس (1949) وشاعر ملك قصة المعتمد بن عباد إضافة إلى ترجمته عام 1944 لكتاب المستشرق البريطاني أستانلي لين بول وعنوانه "قصة العرب في إسبانيا".
كما ترك الجارم أعمالا مثل المعارضات في الشعر العربي، شارك في تأليف كتب أدبية منها المجمل في الأدب العربي، المفصل في الأدب العربي، النحو الواضح في 6 أجزاء بالاشتراك مع زميله الأستاذ مصطفي أمين إبراهيم، البلاغة الواضحة جزآن بالاشتراك مع زميله الأستاذ مصطفي أمين إبراهيم أيضا، علم النفس وآثاره في التربية والتعليم بالاشتراك مع نفس الزميل وكان هذا الكتاب من أوائل الكتب التي ألفت بالعربية في علم النفس .
أبيات تقطر حباً للإسلام
كان الإسلام محورًا لأغلب أعمال علي الجارم، إذ استوحى في رواياته وقصصه وأشعاره العديد من المعاني القرآنية، واستمد من السيرة النبوية المطهرة والتاريخ الإسلامي أروع إبداعاته، مثل "هاتف من الأندلس" و"غادة رشيد" و"الشاعر الطموح".
نقرأ له جزء من قصيدة يشدو فيها حبا للإسلام والنور الذي عم البشرية بسيد الخلق محمد – صلى الله عليه وسلم - تقول :
أطـلـّـت على سُحبِ الظلامِ ذُكـاءُ
وفُـجـِّرَ مـن صـخـرِ التنـُوفة ِ مَاءُ
وخُــبــّرت الأوثـــانُ أنَّ زمانَـهـا
تــولـى ّ وراحَ الـجـهـلُ والجهلاءُ
فما سجدت إلاّ لذي العرشِ جـبهة
ولــــم يَــرتـفـعْ إلاّ إلــيـه دُعـــَاءُ
تبسم ثغرُ الصبحِ عن مولدِ الهُدى
فـــللأرضِ إشــراقٌ بــه وزُهــاءُ
وعادت به الصحراءُ وهـي جديبة
عـلـيـهـا مـن الـدينِ الجـديد رُوَاءُ
ونافـست الأرضُ السماءَ بكوكـبٍ
وضـِيء الـمـحـّيا مـا حَوَتْه سماءُ
لـه الـحـق والإيـمـانُ بــاللّه هــالة
وفـي كـلِّ أجـواءِ الـعـقولِ فَضاءُ
تــألــّق فــي الـدنـيا يُزيـح ظلامَها
فـــزال عـمى ً مــن حولهِ وعَماءُ
وردّ إلــى الـعـُـرْب الــحـَيـاة وقـد
مـضى عليهم زمانٌ والأمامُ وراءُ
ويقول :
عــجبـتُ لأمرِ القومِ يحمونَ ناقـة
وســاداتـهــم مــن أجـْلـِهـا قُتلاءُ
بدا في دُجى الصحراء نورُ محمدٍ
وجـلجـلَ في الصحراء منهُ نِداءُ
نــبـيُ بـه ازدانـت أبـاطـِحُ مــكـة
وعــزَّ بـــهِ ثــَوْرٌ وتـــاه حِــرَاءُ
ُنادي جريء الأصغريْن بــدعـوة
أكـبَّ لهـا الأصـنـامُ والزُعــمـاءُ
دعـاهـم لـربٍ واحـدٍ جـلَّ شـأنــه
له الأمرُ يولى الأمرَ كيف يَـشاءُ
الجارم ..عروبة حتى النخاع
لقد كان علي الجارم عاشقًا للغة القرآن الكريم، احتفى بها في زمن سعى الاستعمار فيه إلى الحد من قوتها عبر عمليات غسيل مخ لأدمغة أناس، اعتقدوا أن لغتهم تحول دون التقدم، فدعوا إلى إحلال الحروف اللاتينية محل حروفها، وكان يرى أن اللغة العربية هي المدخل الطبيعي لوحدة الأمة العربية، فهو القائل :
نـــــــزل القرآن بالضاد فــــلـــو
لــــــم يـــــكن فيها ســــواه لكفاها
ولعل من أبرز قصائده قصيدة "العروبة" التي جاءت من 77 بيتا، وألقاها في مؤتمر الثقافة العربي الأول الذي أقامته الجامعة العربية في لبنان عام 1947م، وجاء فيها :
تــوحـد حـتتى صـار قـلـبـا تحوطـه
قـلـوب مـن الـعـرب الكرام وأضلـع
وأرسـلـهــا فـي الخافـقـيـن وثـيـقــة
لها الحـب يـمـلـى والـوفــاء يـوقـــع
لقد كان حلما أن نرى الشرق وحـدة
ولـكــن مــن الأحـلام مــا يــتــوقــع
ويقول :
بــــنــــي العروبة إن الله يـجمعـنـا
فلا يفرقنا فـــــي الأرض إنــسـان
لــــــنـــا بها وطـن حـر نـلـوذ بـــه
إذا تنـاءت مــســافــات وأوطـــان
ويقول أيضا :
بــلــغ العـرب بالبلاغة والإســلام
أوجــــا أعــيــا عــلــى كــيـــوان
لبسوا شمـس دولـة الفـرس تـاجــا
ومــضـوا فـي مـغافــر الــرومـان
وجروا ينشرون فـي الأرض هديا
من سنا العـلـم أو ســنــا الــقــرآن
نستمع له في افتتاح دورة الانعقاد الثالث لمجمع اللغة العربية يردد :
جــزيــرة أجـدبـت فـي كــل نـاحـية
وأخصبت في نواحي الخلق والأدب
جــدب بــه تـنـبـت الأحـلام زاكـيـة
إن الـحجـارة قـد تـنـشـق عـن ذهب
تـود كـل ريـاض الأرض لو منحت
أزهـارهـا قـبـلـة مـن خـدهـا التـرب
كان علي الجارم كما وصفه معاصروه شاعر العروبة والإسلام، فقد عايش قضايا أمته وتفاعل معها، وجاءت أروع النماذج الشعرية معبرة عن انتمائه الوطني والقومي والإسلامي، فنجد قصيدته "فلسطين" التي بلغت ثلاثة وسبعين بيتًا، منها :
نفـسـي فداء فلسطين ومـا لقيـت
وهل يناجي الهـوى إلا فلسطيـنا
نفسي فداء لأولى القبلتين غـدت
نهبا يزاحــم فــيه الذئـب تـنـيــنا
ويقول :
ومصرُ والنيلُ ماذا اليْومَ خطبُهما
فــقـد سَرى بحديثِ النيلِ رُكْبان
كنانة ُاللّه حصنُ الشرقِ تُحرســُه
شِيبٌ خِفافٌ إلــى الْجُلَّى وشُبَّان
ويستعرض الجارم في مقدمته حياة وآثار العرب في الأندلس التي يراها عجيبة ومثيرة أيضا حيث يشير إلى أن العرب عاشوا في الفتن نحو 800 عاما قل أن تستطيع أمة سواهم البقاء في مثلها وينفي الجارم على سبيل المثال عن العرب تهمة الهدم وعدم التحضر مشددا على أن الهدامين لآثارهم ومدنياتهم إنما هم أعداؤهم من البربر والإفرنج والتتار.
شاعر إنسان
كتب الجارم أشعارا كثيرة في وصف الطبيعة الغناء بربوع الوطن العربي وجمالها ولعلنا نختار واحدة من أروع ما سطر يخاطب فيها طائر بقوله :
طائـرٌ يـشـدو عـلـى فـنـن
جدَّد الذكرى لذي شـــجــن
قــام والأكــوانُ صامـتــةٌ
ونسيمُ الصُّبْحِ فـي وَهــــَن
هاج في نفسي وقـد هدأت
لـوعـةً لــولاه لــم تــكــــن ْ
هــزَّه شـــوقٌ إلـى سـكـنٍ
فـبـكـى للأهـل والـسـَّكـــَن
وَيْــكَ لا تـجــزعْ لـنـازلـةٍ
ما لطيرِ الـجـوِّ مـن وطــن
أما الموت فيقول عنه :
إن جرد الموتُ نصلاً ما صَمدت لـه
فــطالَـمـا رَدَّ نـصـلٌ مـنــك أرواحـا
قــد كـنـت تـَهزِمُه فِــي كــل مُعْتَـركٍ
يـزاحـم الشَّمـسَ أسـيـافــاً وأرمـاحـا
وكان جَرْحُك يأسو كلَّ مــا جـرحَـتْ
يَـدُ الـزَّمـان ويَحيـَى كـلَّ ما اجتاحـا
الــيـــومَ يَــثْـــأَرُ والأيـــامُ عُـــدّتُــــه
لا الطبُّ يُجدي ولا الجرَّاح جراحـا
جوائز حصل عليها
قدر العالم العربي على الجارم حق قدره فمنحته مصر وسام النيل 1919 والرتبة الثانية سنة 1935 ، انعم عليه العراق بوسام الرافدين سنة 1936 وانعم عليه لبنان بوسام الأرز من رتبة كومندور سنة 1947 ، توفي بالقاهرة فجأة وهو مصغ إلى أحد أبنائه يلقي قصيدة له في حفل تأبين محمود فهمي النقراشي وذلك عام 1949م .
قالوا عنه :
معاصروه من الأدباء : شاعر العروبة والإسلام
الأديب الكبير عباس العقاد في تقديمه لديوانه الشعري : "الجارم عالم باللغة، وعالم مع اللغة بفنون التربية وفروعها، وهو الشاعر الذي زوده الأدب والعلم بأسباب الإجادة والصحة، فكان شعره زادا لطالب البيان في عصره، ومثالاً صالحًا للثقافة التي أسهم فيها بأدبه وعلمه".
الدكتور حلمي قاعود : " علي الجارم شاعر وواحد من مدرسة البيان في النثر الحديث .
الناقد محمد أبوبكر حميد : كانت شاعريته تكمن خلف وقوفه عند أعلام شعرنا القديم، مثل ابن زيدون في رواية (هاتف من الأندلس) والمعتمد بن عباد في (شاعر ملك) والمُتنبي في (الشاعر الطموح) و(خاتمة المطاف) " .
جــدّدي يـــا رشيدُ للـــحـبّ عَهْدَا
حَسْبُنا حســــــبُنا مِطالاً وصــدَّا
جــدّدي يـــا مدينة َ السحرِ أحــلا
ماً وعْيشاً طَلْقَ الأسارير رَغـْـدا
جــدّدي لمحة ً مضتْ مــن شبابٍ
مــثــل زهـر الربا يرِفُّ ويندَى
وابعثي صَحْوة ً أغار عليها الشــ
يْبُ حتَّى غـدتْ عَــنـاءً وسـُهـدا
وتعالَى ْ نــعــيـشُ في جَنَّة ِ الـمـا
ضـي إذا لم نجِدْ مـن العيشِ بـُدّا
ذِكْرياتٌ لــو كــان للــدهـــرِ عِقْدٌ
كـنّ فــي جِيدِ سالفِ الدهر عِقدا
أولى قصائد الجارم كانت بعنوان "الوباء" عام 1895م، عندما اجتاحت جرثومة "الكوليرا" بلده رشيد وحصدت الأرواح، وقد قال فيها مخاطبًا هذا المكروب اللعين:
أي هــذا الــمـكـروب مــهــلا قليلا
قد تجاوزت في سـراك الـسـبـيلا
لست كالواو أنت كالمنجل الحصاد
إن أحــسـنـوا لك الـتــمــثـــيـــلا
العلم ميزان الحياة عند الشاعر تعلم الجارم في الأزهر ودار العلوم وتخرج منها سنة 1908، ثم بعث على انجلترا فأقام سنة بمدينة توتنجهام درس اللغة الإنجليزية ، وكان محبا للعلم بصورة كبيرة مرددا :
والْعِلْمُ مِيزانُ الْحَياة ِ فإِنْ هَوَى
هَوَتِ الْحَياة ُ لأَسْفلِ الأَدْرَاك
ومن النوادر أنه في عام 1910م شاهد الضباب في إنجلترا يتكاثف، فإذا المبصرون أنفسهم يضلون الطريق حائرين، وإذا العميان يقودونهم خلال هذا الضباب، فكتب يقول :
أبصرت أعمى في الضباب بلندن
يــمـشـي فـلا يـشـكـو ولا يــتــأوه
فـأتـاه يـسـألـه الـهـدايـة مـبـصـــر
حـيـران يـخبـط في الظلام ويعمه
فـاقـتـاده الأعـمـى فــســار وراءه
أنـىّ تــوجـــه خــطــوه يـتـوجـــه
التحق الجارم بالكلية الجامعة بـ اكستر ومكث بها ثلاث سنوات درس خلالها علم النفس وعلوم التربية والمنطق والأدب الإنجليزي، حصل على إجازة في كل المواد وعاد إلى مصر في أغسطس سنة 1912 ، ثم عين مدرسا بمدرسة التجارة المتوسطة ثم نقل منها بعد سنة على دار العلوم مدرسا لعلوم التربية، في مايو سنة 1917 نقل مفتشا بوزارة المعارف..ثم رقي إلى وظيفة كبير مفتشي اللغة العربية وظل فيها حتي 1940 حين نقلا وكيلا لدار العلوم وظل فيها إلى أن أحيل إلى المعاش سنة 1942.
ابنه أحمد علي الجارم وهو طبيب وأستاذ الأمراض الباطنة بكلية الطب جامعة القاهرة 1972 ، أنشأ قسم الأمراض المتوطنة بكليات الطب بجامعة القاهرة وطنطا والأزهر ، عضو مجمع اللغة العربية 2003 ، أعاد طبع الأعمال الشعرية والنثرية والأدبية واللغوية الكاملة للمرحوم والده الشاعر الكبير.
كان أديبا موسوعيا متعدد المواهب، جمع بين موهبة الشعر والنثر الأدبي.. فكان شاعرًا وقاصًا وروائيًا وناقدا ولغويا ونحويًا وتربويًا، عاصر كبار الشعراء والأدباء مثل شوقي وحافظ وطه حسين ومطران، وأسهم بزاد وافر في مجال الشعر والقصة والبلاغة والتاريخ الأدبي ، تفرغ الجارم للأدب بعد إحالته على المعاش وحينما انشأ ..مجمع اللغة العربية كان من أعضائه المؤسسين، وكانت له جهود في التعريب , إذ عرب كتاب "قصة العرب في أسبانيا".
وأسهم في التأريخ للأدب العربي بتأليفه كتاب "تاريخ الأدب العربي" مع آخرين، وفي مجال اللغة ألف الكثير من الكتب منها "النحو الواضح" و"البلاغة الواضحة", ترك الجارم تراثا نثريا يكاد يزيد عن تراثه الشعري كما أن بعض معاصريه اعتبروا رواياته التاريخية أهم من نثر أحمد شوقي وكان أبرزها الأعمال النثرية الكاملة التي صدرت في القاهرة عن الدار المصرية اللبنانية وتقع في 1040 صفحة تضمها ثلاثة مجلدات.
وقال أحمد علي الجارم – نجل الأديب الراحل- في مقدمة الجزء الأول إن والده كتب عشر روايات، مشيرا إلى أن ما اعتبره تأخرا في اهتمام الدارسين بتراث الجارم يعود إلى عدم إتاحة أعماله لفترة زمنية طويلة، حين منعت الرقابة العسكرية إبان حكم الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر إعادة طبع مؤلفات الجارم بالإضافة إلى "مؤامرة الصمت" التي حيكت حوله في هذا العهد.
وضم المجلد الأول روايات فارس بني حمدان التي كتبها في العام 1945 والشاعر الطموح المتنبي وخاتمة المطاف في نهاية المتنبي ، في حين ضم المجلدان الثاني والثالث قصتي الفارس الملثم (1949) والسهم المسموم التي نشرت عام 1950 بعد وفاته إضافة إلى روايات مرح الوليد في سيرة يزيد الأموي ، وسيدة القصور آخر أيام الفاطميين في مصر(1944) وغادة رشيد التي كانت في السنوات الماضية مقررة على طلاب المدارس الثانوية في مصر وتتناول كفاح الشعب ضد الاستعمار الفرنسي (1798 – 1801)، رواية هاتف من الأندلس (1949) وشاعر ملك قصة المعتمد بن عباد إضافة إلى ترجمته عام 1944 لكتاب المستشرق البريطاني أستانلي لين بول وعنوانه "قصة العرب في إسبانيا".
كما ترك الجارم أعمالا مثل المعارضات في الشعر العربي، شارك في تأليف كتب أدبية منها المجمل في الأدب العربي، المفصل في الأدب العربي، النحو الواضح في 6 أجزاء بالاشتراك مع زميله الأستاذ مصطفي أمين إبراهيم، البلاغة الواضحة جزآن بالاشتراك مع زميله الأستاذ مصطفي أمين إبراهيم أيضا، علم النفس وآثاره في التربية والتعليم بالاشتراك مع نفس الزميل وكان هذا الكتاب من أوائل الكتب التي ألفت بالعربية في علم النفس .
أبيات تقطر حباً للإسلام
كان الإسلام محورًا لأغلب أعمال علي الجارم، إذ استوحى في رواياته وقصصه وأشعاره العديد من المعاني القرآنية، واستمد من السيرة النبوية المطهرة والتاريخ الإسلامي أروع إبداعاته، مثل "هاتف من الأندلس" و"غادة رشيد" و"الشاعر الطموح".
نقرأ له جزء من قصيدة يشدو فيها حبا للإسلام والنور الذي عم البشرية بسيد الخلق محمد – صلى الله عليه وسلم - تقول :
أطـلـّـت على سُحبِ الظلامِ ذُكـاءُ
وفُـجـِّرَ مـن صـخـرِ التنـُوفة ِ مَاءُ
وخُــبــّرت الأوثـــانُ أنَّ زمانَـهـا
تــولـى ّ وراحَ الـجـهـلُ والجهلاءُ
فما سجدت إلاّ لذي العرشِ جـبهة
ولــــم يَــرتـفـعْ إلاّ إلــيـه دُعـــَاءُ
تبسم ثغرُ الصبحِ عن مولدِ الهُدى
فـــللأرضِ إشــراقٌ بــه وزُهــاءُ
وعادت به الصحراءُ وهـي جديبة
عـلـيـهـا مـن الـدينِ الجـديد رُوَاءُ
ونافـست الأرضُ السماءَ بكوكـبٍ
وضـِيء الـمـحـّيا مـا حَوَتْه سماءُ
لـه الـحـق والإيـمـانُ بــاللّه هــالة
وفـي كـلِّ أجـواءِ الـعـقولِ فَضاءُ
تــألــّق فــي الـدنـيا يُزيـح ظلامَها
فـــزال عـمى ً مــن حولهِ وعَماءُ
وردّ إلــى الـعـُـرْب الــحـَيـاة وقـد
مـضى عليهم زمانٌ والأمامُ وراءُ
ويقول :
عــجبـتُ لأمرِ القومِ يحمونَ ناقـة
وســاداتـهــم مــن أجـْلـِهـا قُتلاءُ
بدا في دُجى الصحراء نورُ محمدٍ
وجـلجـلَ في الصحراء منهُ نِداءُ
نــبـيُ بـه ازدانـت أبـاطـِحُ مــكـة
وعــزَّ بـــهِ ثــَوْرٌ وتـــاه حِــرَاءُ
ُنادي جريء الأصغريْن بــدعـوة
أكـبَّ لهـا الأصـنـامُ والزُعــمـاءُ
دعـاهـم لـربٍ واحـدٍ جـلَّ شـأنــه
له الأمرُ يولى الأمرَ كيف يَـشاءُ
الجارم ..عروبة حتى النخاع
لقد كان علي الجارم عاشقًا للغة القرآن الكريم، احتفى بها في زمن سعى الاستعمار فيه إلى الحد من قوتها عبر عمليات غسيل مخ لأدمغة أناس، اعتقدوا أن لغتهم تحول دون التقدم، فدعوا إلى إحلال الحروف اللاتينية محل حروفها، وكان يرى أن اللغة العربية هي المدخل الطبيعي لوحدة الأمة العربية، فهو القائل :
نـــــــزل القرآن بالضاد فــــلـــو
لــــــم يـــــكن فيها ســــواه لكفاها
ولعل من أبرز قصائده قصيدة "العروبة" التي جاءت من 77 بيتا، وألقاها في مؤتمر الثقافة العربي الأول الذي أقامته الجامعة العربية في لبنان عام 1947م، وجاء فيها :
تــوحـد حـتتى صـار قـلـبـا تحوطـه
قـلـوب مـن الـعـرب الكرام وأضلـع
وأرسـلـهــا فـي الخافـقـيـن وثـيـقــة
لها الحـب يـمـلـى والـوفــاء يـوقـــع
لقد كان حلما أن نرى الشرق وحـدة
ولـكــن مــن الأحـلام مــا يــتــوقــع
ويقول :
بــــنــــي العروبة إن الله يـجمعـنـا
فلا يفرقنا فـــــي الأرض إنــسـان
لــــــنـــا بها وطـن حـر نـلـوذ بـــه
إذا تنـاءت مــســافــات وأوطـــان
ويقول أيضا :
بــلــغ العـرب بالبلاغة والإســلام
أوجــــا أعــيــا عــلــى كــيـــوان
لبسوا شمـس دولـة الفـرس تـاجــا
ومــضـوا فـي مـغافــر الــرومـان
وجروا ينشرون فـي الأرض هديا
من سنا العـلـم أو ســنــا الــقــرآن
نستمع له في افتتاح دورة الانعقاد الثالث لمجمع اللغة العربية يردد :
جــزيــرة أجـدبـت فـي كــل نـاحـية
وأخصبت في نواحي الخلق والأدب
جــدب بــه تـنـبـت الأحـلام زاكـيـة
إن الـحجـارة قـد تـنـشـق عـن ذهب
تـود كـل ريـاض الأرض لو منحت
أزهـارهـا قـبـلـة مـن خـدهـا التـرب
كان علي الجارم كما وصفه معاصروه شاعر العروبة والإسلام، فقد عايش قضايا أمته وتفاعل معها، وجاءت أروع النماذج الشعرية معبرة عن انتمائه الوطني والقومي والإسلامي، فنجد قصيدته "فلسطين" التي بلغت ثلاثة وسبعين بيتًا، منها :
نفـسـي فداء فلسطين ومـا لقيـت
وهل يناجي الهـوى إلا فلسطيـنا
نفسي فداء لأولى القبلتين غـدت
نهبا يزاحــم فــيه الذئـب تـنـيــنا
ويقول :
ومصرُ والنيلُ ماذا اليْومَ خطبُهما
فــقـد سَرى بحديثِ النيلِ رُكْبان
كنانة ُاللّه حصنُ الشرقِ تُحرســُه
شِيبٌ خِفافٌ إلــى الْجُلَّى وشُبَّان
ويستعرض الجارم في مقدمته حياة وآثار العرب في الأندلس التي يراها عجيبة ومثيرة أيضا حيث يشير إلى أن العرب عاشوا في الفتن نحو 800 عاما قل أن تستطيع أمة سواهم البقاء في مثلها وينفي الجارم على سبيل المثال عن العرب تهمة الهدم وعدم التحضر مشددا على أن الهدامين لآثارهم ومدنياتهم إنما هم أعداؤهم من البربر والإفرنج والتتار.
شاعر إنسان
كتب الجارم أشعارا كثيرة في وصف الطبيعة الغناء بربوع الوطن العربي وجمالها ولعلنا نختار واحدة من أروع ما سطر يخاطب فيها طائر بقوله :
طائـرٌ يـشـدو عـلـى فـنـن
جدَّد الذكرى لذي شـــجــن
قــام والأكــوانُ صامـتــةٌ
ونسيمُ الصُّبْحِ فـي وَهــــَن
هاج في نفسي وقـد هدأت
لـوعـةً لــولاه لــم تــكــــن ْ
هــزَّه شـــوقٌ إلـى سـكـنٍ
فـبـكـى للأهـل والـسـَّكـــَن
وَيْــكَ لا تـجــزعْ لـنـازلـةٍ
ما لطيرِ الـجـوِّ مـن وطــن
أما الموت فيقول عنه :
إن جرد الموتُ نصلاً ما صَمدت لـه
فــطالَـمـا رَدَّ نـصـلٌ مـنــك أرواحـا
قــد كـنـت تـَهزِمُه فِــي كــل مُعْتَـركٍ
يـزاحـم الشَّمـسَ أسـيـافــاً وأرمـاحـا
وكان جَرْحُك يأسو كلَّ مــا جـرحَـتْ
يَـدُ الـزَّمـان ويَحيـَى كـلَّ ما اجتاحـا
الــيـــومَ يَــثْـــأَرُ والأيـــامُ عُـــدّتُــــه
لا الطبُّ يُجدي ولا الجرَّاح جراحـا
جوائز حصل عليها
قدر العالم العربي على الجارم حق قدره فمنحته مصر وسام النيل 1919 والرتبة الثانية سنة 1935 ، انعم عليه العراق بوسام الرافدين سنة 1936 وانعم عليه لبنان بوسام الأرز من رتبة كومندور سنة 1947 ، توفي بالقاهرة فجأة وهو مصغ إلى أحد أبنائه يلقي قصيدة له في حفل تأبين محمود فهمي النقراشي وذلك عام 1949م .
قالوا عنه :
معاصروه من الأدباء : شاعر العروبة والإسلام
الأديب الكبير عباس العقاد في تقديمه لديوانه الشعري : "الجارم عالم باللغة، وعالم مع اللغة بفنون التربية وفروعها، وهو الشاعر الذي زوده الأدب والعلم بأسباب الإجادة والصحة، فكان شعره زادا لطالب البيان في عصره، ومثالاً صالحًا للثقافة التي أسهم فيها بأدبه وعلمه".
الدكتور حلمي قاعود : " علي الجارم شاعر وواحد من مدرسة البيان في النثر الحديث .
الناقد محمد أبوبكر حميد : كانت شاعريته تكمن خلف وقوفه عند أعلام شعرنا القديم، مثل ابن زيدون في رواية (هاتف من الأندلس) والمعتمد بن عباد في (شاعر ملك) والمُتنبي في (الشاعر الطموح) و(خاتمة المطاف) " .